ساحل العاج والحركة الأدبية: موج لا يستكين

تحرير : ابن يانكيني.

باحث في الأدب الأفريقي و شؤون القارة الأفريقية.

نشأت الحركة الأدبية في ساحل العاج (كوت ديفوار) كما هو حال دول أفريقيا جنوب الصحراء، وبلغت ذروتها مع مطالب الدول الإفريقية بالاستقلال من المستعمر الغربي، فلم يكن ساحل العاج بمنأى عن هذه المطالبات الساعية للحرية والاستقلال.

برزت في ستينيات القرن الماضي شخصية لا يستغنى عنها في الحركة الأدبية بساحل العاج، وهو السيد برنارد بيلين داديي، الذي يعتبر أبا الأدب الإيفواري. فقد كان من أوائل المثقفين الذين كونتهم الحكومة الاستعمارية الفرنسية خلال فترة الاستعمار، قبل أن تتحقق مطالب الاستقلال. ومكاتفا للرئيس الأول لدولة ساحل العاج المستقلة، السيد هوفويت بواني، كان داديي عضوا رئيسيا في حكومته قبل أن يستقل لينشغل بأعباءه الثقافية. ونشر العديد من الكتب التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب الأفريقي الأسود، أبرزها “دائرة الأيام” (مجموعة شعرية) و”الإزار الأسود” (مجموعة حكايات أفريقية)، وقد فاز بالجائزة الكبرى للأدب الأفريقي الأسود.

شهد الأدب الإيفواري حالة من الفتور منذ حقبة الاستقلال وحتى نهاية تسعينات القرن الماضي، إذ لم يظهر عدد كبير من الكتاب المبدعين، إلا أن فتى مبدع أشرق نوره في أوائل السبعينات، حين كتب روايته الأولى وهو طالب في المرحلة المتوسطة وعمره ثمانية عشر عاما فقط. أصبحت روايته “نزوات إيبنتو” من أروع الروايات الأفريقية؛ إذ تسرد قصة حب طفيفة بين شاب إيفواري وفتاتين، وتنتهي بنهاية مأساوية لنزعاته الشبابية، وتوجت بجائزة أفضل رواية أفريقية في تلك السنة.

أصبح هذا الشاب العبقري من أبرز الكتاب في فترة قصيرة، حيث تلت روايته الأولى عدة روايات قصيرة، قبل أن يختفي عن الأضواء؛ فلم ينشر رواية جديدة منذ الثمانينات بعد أن أنهى عمله كمدرس في الولايات المتحدة الأمريكية.

ثم، خلال تسعينات القرن الماضي، ظهر للجمهور كاتب مبدع آخر بأسلوبه الساخر وإيقاعه الجذاب، وهو السيد أمادو كوروما، الموظف الإيفواري الذي تقاعد في فرنسا، والذي ألف في فترة قصيرة من الزمن روايات من أروع الروايات الأفريقية. بدأ بروايته الأولى “شموس الاستقلالات” التي انتقد فيها سياسات الدول الإفريقية التي حصلت على استقلالها في الستينات، ثم روايته الثانية “الله غير مجبر” التي تناولت الحروب الأهلية في ليبيريا والتي فازت بجائزة أفضل رواية في فرنسا، وتلتها روايته الأخيرة “عندما نأبى، نقول (لا)” التي ناقشت الحروب الأهلية التي اندلعت في ساحل العاج في بداية القرن الحاضر.

إذا حاولنا حصر الشخصيات الأدبية في ساحل العاج، فإنها غالبا ما تقتصر على هذه الوجوه الثلاثة عبر قرن من الزمن. ومع ذلك، فإن الوضع الأدبي يشهد في السنوات العشر الأخيرة نهضة واضحة مع انتشار الكتب والمطابع في كل أنحاء البلاد، إلى جانب الإرادة السياسية من الرئيس الحالي الذي يخصص عناية خاصة للثقافة والفنون في سياسته الوطنية.

أما الثورة التي أحدثتها ديمقراطية الكتابة في المجتمع الإيفواري فهي تغيير جذري؛ ففي الماضي كانت الكتابة مقتصرة على فئة معينة من المواطنين وطبقة محددة من المجتمع، حيث كان الأدب يهيمن عليه أساتذة الجامعات وأبناء الأثرياء، مما شكل عائقا أمام الحركة الأدبية. إن تقييد الكتابة لتكون مقتصرة على الطبقة العليا يؤدي إلى فقدانها لصدق الشعور وتمثيل نفسية الشعب، خاصةً وأن الأغلبية في مجتمعاتنا الإفريقية تنتمي إلى الطبقة الوسطى وما دون. وقد وفرت هذه الثورة فرصة التعبير للمواطن العادي ذي الموارد المحدودة، حيث كان انتشار المطابع وديمقراطية دور الطباعة العنصر الحاسم في نجاحها.

ومن بين أبرز الوجوه الشابة التي برزت في هذا السياق الكاتب نِنصيمون فالي، الذي فاز بجائزة الراديو الفرنسية العالمية (RFI) لعام 2024 عن روايته الأولى “هذه الشموس الحارقة”. هذا الشاب الذي ينتمي إلى فئة بسيطة ويعمل كمصمم للبيانات الإلكترونية (إنفوغرافيك) لم يكن ليبرز دون ديمقراطية الساحة الأدبية التي منحت الفرصة للمواهب الفريدة للتألق، بدلاً من الفتور والخمول.

وفي الوقت الحاضر، يمكننا القول بثقة إن المجال الأدبي في ساحل العاج بخير ويزداد ازدهارا وتقدما كل عام، وقد بلغ ذروته إقامة الصالون الدولي للكتاب في أبيدجان (SILA)، الذي يعقد سنويا في العاصمة الإيفوارية، حيث يجتمع أبرز شخصيات الأدب الإفريقي والعالمي لدعم مبادرات القراءة وتشجيع الكتاب على إصدار إبداعاتهم. كما تمنح في ختام المناسبة التي تستمر ثلاثة أيام جائزة مرموقة لأفضل كتاب خلال العام المنصرم.

وبالفعل، رغم تعرض الحركة الأدبية الإيفواري لفترات من الركود، فإن موجها لا يستكين أبدا.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض