الدور التركي المتنامي في غرب إفريقيا: الدين والاقتصاد والجغرافيا

الدكتور عبد الرحمان كامل/ باحث في الدراسات السياسية والأمنية

شهدت منطقة غرب إفريقيا خلال العقدين الأخيرين تحوّلات جِيُوسياسية كبرى، تجلّت في تصاعد نفوذ قوى غير تقليدية في الفضاء الإفريقي، من بينها تركيا التي اتخذت مسارًا تصاعديًا لفرض وجودها في المنطقة. ويأتي هذا التمدُّد التركي في سياق رؤية استراتيجية تبنّاها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002، تقوم على التمدُّد الناعم من بوّابة الدين والتعليم والتعاون الاقتصادي، وتوظيف الجغرافيا السياسية المتغيّرة لتحقيق مكاسب استراتيجية في مواجهة قوى تاريخية مثل فرنسا ومنافسين جدد كالصين وروسيا.

ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم لعب البُعد الديني دورًا محوريًا في السياسة الخارجية التركية، خاصة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة مثل غرب افريقيا، حيث اعتمدت تركيا على أدوات دينية وثقافية لتعزيز وجودها الناعم، تتمثّل في الآتي:

  • انتشار المدارس والمعاهد الدينية: قامت تركيا عبر مؤسّسات مثل وقف المعارف وتيكا (وكالة التعاون والتنسيق التركية) بافتتاح عشرات المدارس والمعاهد في دول مثل: السنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وبوركينافاسو، وتُسهم هذه المدارس في تعليم اللغة التركية ونشر المذهب الحنفي الذي تتبنّاه الدولة التركية مقابل المذهب المالكي السّائد في المنطقة.
  • دعم الأئمة وبناء المساجد: تقوم تركيا أيضًا بتدريب الأئمة والخطباء في معاهدها الدينية بأنقرة واسطنبول، كما أنها موّلت بناء مساجد كبرى أبرزها مسجد داكار بالسنغال وهو ما يدعم تعزيز حضورها الديني مقابل نفوذ باقي القوى.
  • إقصاء نفوذ فتح الله غولن: بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 2016، شنّت تركيا حملة ضد مدارس ومراكز جماعة فتح الله غولن التي كانت منتشرة بقوة في افريقيا، وتمّ استبدالها بمؤسّسات موالية للحكومة التركية، وهو ما مَكّن أنقرة من إحكام قبضتها على التعليم الديني والثقافي في المنطقة.

ولم تكتف تركيا بالبُعد الثقافي والديني، بل سعت إلى ترسيخ نفوذها عبر بوابة الاقتصاد وفق سياسة استثمارية موجهة لدول افريقيا جنوب الصحراء، يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

  • ارتفاع حجم المبادلات التجارية: ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول غرب إفريقيا من أقل من 500 مليون دولار عام 2003 إلى حوالي 5 مليارات دولار في نهاية عام 2022، وتشمل الصادرات التركية الأجهزة الكهربائية والأثاث والأدوية ومواد البناء، أما الواردات فتتمثّل أساسًا في الذهب والقطن والكاكاو والمواد الخام.
  • الاستثمارات في البنية التحتية: نفذت شركات تركية كبرى مثل: Limak و Summa مشاريع مطارات وموانئ وطرق ومستشفيات خاصة في دول السنغال ومالي ونيجيريا.
  • قطاع الطيران التركي: شكلت الخطوط الجوية التركية أداة استراتيجية لربط اسطنبول بعواصم غرب افريقيا، حيث تُسيّر رحلات منتظمة إلى أكثر من 20 مدينة إفريقية وهو ما أسهم في تسهيل تدفق رجال الأعمال والاستثمارات.

ولهذا التوجه التركي الاستراتيجي أبعاد للتنافس مع قوى دولية في منطقة غرب إفريقيا مثل فرنسا والصين وروسيا، يمكن التطرّق لها من خلال الآتي:

  • مع فرنسا: تُعتبر فرنسا القوة التقليدية في غرب إفريقيا لكنها تواجه انحسارًا متزايدًا لنفوذها نتيجة رفض الشارع الإفريقي للهيمنة الفرنسية، حيث استغلت تركيا هذا الوضع لتقديم نفسها كشريك بديل مسلم وغير استعماري مستثمرة في الخطاب المعادي للغرب ولفرنسا تحديدًا، كما دعمت أنقرة بعض الأنظمة السياسية عبر مواقف سياسية وتحالفات اقتصادية خصوصًا بعد الانقلابات في مالي وبوركينافاسو.
  • مع الصين: تتمتّع الصين بحضور قوي ومتزايد في غرب افريقيا، خصوصًا في مجال البنية التحتية والموارد الطبيعية من خلال مبادرة الحزام والطريق والاستثمارات الضخمة في الموانئ والطرق والمناجم. وتتنافس تركيا مع الصين اقتصاديًا في مشاريع البناء والخدمات، كما تسعى أنقرة لتقديم نموذج شراكة مختلف يعتمد على القرب الثقافي والديني بخلاف النموذج الصيني القائم أساسًا على المصالح الاقتصادية. وبالرغم من أنّ الصين لا تنافس تركيا دينيًا إلا أنّ حجم استثماراتها ونفوذها السياسي يشكل تحدّيًا كبيرًا للتمدّد التركي في المنطقة، خاصة في ظل ما توفره بكين من تمويلات ضخمة لدول المنطقة دون شروط سياسية واضحة.
  • مع روسيا: تركز روسيا بالأساس على البُعد العسكري عبر مجموعة فاغنر والموارد الطبيعية (اليورانيوم والذهب)، بينما تستثمر تركيا في المجالات المدنية. وبالرغم من اختلاف الأدوات هناك تلاقٍ ضمني بين الدولتين في تقويض النفوذ الفرنسي بالمنطقة، لكنه مرشح للتحوّل إلى تنافس مستقبلي على النفوذ الاقتصادي والسياسي.

وختامًا، تؤكد كل المؤشرات التحليلة أنّ الدور التركي في غرب إفريقيا آخذ في التصاعد مستفيدًا من التحوّلات الجيُوسياسية والفراغ الاستراتيجي الذي خلفه تراجع فرنسا، غير أنّ استمرار هذا النفوذ يظل رهينًا بقدرة أنقرة على إدارة توازنات دقيقة مع قوى إقليمية ودولية، في فضاء يشهد تحوّلات معقدة ومتسارعة

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض