شراكة موريتانية أوروبية لتأمين مستقبل الصيد المستدام

تحرير: وداد وهبي

في ميناء نواذيبو الموريتاني، تتأهب آلاف الزوارق الصغيرة للعودة إلى البحر بعد توقف دام شهرين نتيجة حظر جزئي للصيد، في مشهد يعكس الحيوية المتجددة لهذا القطاع الحيوي الذي يوفر الغذاء والدخل لعشرات الآلاف من المواطنين. تقع موريتانيا على أحد أغنى الشواطئ البحرية في العالم، حيث تستقطب مياه المحيط الأطلسي الممتدة على سواحلها ليس فقط الصيادين المحليين، بل أيضا أساطيل دولية، ما يدر أرباحا كبيرة للدولة. غير أن هذا المورد الاستراتيجي يواجه اليوم تهديدات حقيقية بسبب الاستغلال المفرط، إذ حذرت مجموعة من العلماء والمنظمات البيئية من التدهور المتسارع في العديد من أنواع الأسماك، وسط مؤشرات مقلقة على تراجع المخزون السمكي.

يعبرالصيادون التقليديون في نواذيبو  عن قلق متزايد. فالكثير منهم، ممن اعتادوا على وفرة الصيد، باتوا يضطرون للإبحار لمسافات أطول، في ظروف محفوفة بالمخاطر، وبكلفة وقود مرتفعة، مقابل عائد أقل. يقول موسى تاو، وهو أحد الصيادين الذين ورثوا المهنة أباً عن جد: “البحر أصبح فارغاً، نستهلك الكثير من الوقود ولا نحقق ما يكفي من الربح”.

وتبرز الأزمة بشكل خاص في ما يتعلق بالأسماك السطحية الصغيرة مثل السردين، التي تعد مصدرا غذائيا رئيسيا لملايين الناس. ويمثل تراجعها تهديدا مباشرا للأمن الغذائي. يشير محمد فاضل ولد سويلي، رئيس اتحاد الصيادين التقليديين، إلى أن فقدان هذه الموارد سيكون بمثابة كارثة وطنية. وبينما يشكل تغير المناخ عاملا مهما في هذا التدهور، تتجه أصابع الاتهام بشكل رئيسي إلى السفن الصناعية، خصوصا الأجنبية، والتي تستنزف كميات هائلة من الأسماك لتغذية صناعة دقيق السمك المتنامية.

تجفف هذه الأسماك وتحول إلى مسحوق يستخدم في تغذية مزارع الأسماك والأسمدة، وهو نشاط يلقى رواجا متزايدا في موريتانيا. غير أن نشطاء بيئيين يحذرون من أن هذه الصناعة قد تسهم في تحويل الأسماك المخصصة لاستهلاك السكان المحليين إلى مواد أولية للتصدير، ما يزيد من الضغط على الأنواع المهددة. وتزعم بعض الشركات، مثل “Mauritania Pelagic”، أنها تتبع ممارسات مسؤولة من خلال الاقتصار على استخدام النفايات السمكية لإنتاج الدقيق والزيوت، وتجميد باقي الأسماك ذات الجودة العالية للاستهلاك البشري، وفق معايير السلامة الغذائية الدولية.

وتسعى الحكومة الموريتانية إلى فرض ضوابط أكثر صرامة على هذا القطاع. فقد قلصت عدد السفن الصناعية من أكثر من سبعين إلى أقل من خمسة عشر، وأغلقت بعض المصانع المخالفة للمعايير، وشجعت أخرى على اعتماد تقنيات التبريد لتوجيه الإنتاج نحو التغذية وليس فقط التصنيع. وتدعم هذه الجهود شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، عبر اتفاقية تعرف بـ”اتفاق الصيد المستدام”، تنص على مساهمة مالية أوروبية سنوية قدرها 57 مليون يورو، مقابل السماح لسفن الاتحاد بالصيد في المياه الموريتانية، بشرط احترام الحصص وعدم تجاوز الموارد الفائضة.

وتشمل الاتفاقية خطة علمية لإدارة المخزون أطلقت عام 2022، تتضمن تحديد الحصص، وإنشاء مناطق محمية، وفرض فترات توقف للصيد لضمان تجدد الثروة السمكية. كما تدعم الاتفاقية تطوير البنية التحتية في القطاع، من الموانئ وزوارق المراقبة ومختبرات البحث إلى أسواق السمك والمحميات الطبيعية، مما يعزز قدرة موريتانيا على ضبط هذا المورد الهام.

يمثل الصيد البحري اليوم أكثر من ثلث صادرات البلاد، ويؤمن ربع دخل الدولة، كما يوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لحوالي 300 ألف شخص. غير أن نجاح موريتانيا في الحفاظ على هذه الثروة لن يكون ممكنا دون تنسيق إقليمي، خاصة أن الأسماك لا تعرف الحدود. ويوصي الخبراء بإدارة منسقة عبر دول غرب إفريقيا.

ويشير الباحثون في المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد إلى أن بعض أنواع السمك بدأت في التعافي بفضل الإجراءات الجديدة، لكن أخرى ما تزال مهددة. ويؤكد هؤلاء أن تعافي المخزون يتطلب خفضا بنسبة 60٪ في معدل الوفيات السمكية، ما يعني تقليص عدد القوارب، وتقصير مواسم الصيد وتشديد الرقابة وهي مهمة شاقة في بلد يرتبط فيه البحر بالحياة اليومية والمعيشة.

تعتمد موريتانيا، أكثر من أي وقت مضى، على مواردها البحرية. غير أن الحفاظ على هذه الثروة يتطلب توازنا دقيقا بين الضرورات الاقتصادية وإكراهات الاستدامة، لأن مصير الأجيال القادمة يرتبط إلى حد بعيد بمصير هذه البحار.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض