قابس تحت وطأة التلوث الفوسفاتي: أزمة صحية وبيئية تهدد حياة السكان

تحرير: وداد وهبي

في مدينة قابس التونسية، تختلط رائحة المطاط المحترق بضجيج الحياة اليومية، في مشهد يختصر مأساة بيئية متواصلة منذ عقود. في غرفة تشريفة عتيّة، البالغة من العمر أربعة وسبعين عامًا، يتسلل الدخان السام من نوافذ مغلقة، حاملا آثار التلوث المنبعث من مجمع الفوسفات التابع للمجموعة الكيميائية التونسية، التي تعد أكبر منشأة صناعية من نوعها في البلاد. بات هذا المجمع الذي يلقي بمخلّفاته مباشرة في البحر والهواء، رمزا لتدهور بيئي تحوّل إلى أزمة صحية جماعية، وسط صمت رسمي وإصرار حكومي على توسيع الإنتاج بدل إغلاق المنشأة كما سبق التعهد به عام 2017.

ورغم تدهور الترتيب العالمي لتونس في إنتاج الفوسفات، تسعى السلطات اليوم إلى رفع الإنتاج من 3 إلى 14 مليون طن سنويا بحلول عام 2030، في إطار رؤية اقتصادية يقودها الرئيس قيس سعيد، وتراها الجمعيات البيئية كارثة معلنة. فالعديد من الدراسات ومن بينها تقرير صادر عن مختبر “جيوسيانس” بجامعة تولوز الفرنسية في دجنبر 2024، أكدت وجود مستويات “مرتفعة جدا” من الملوّثات المرتبطة مباشرة بأمراض خطيرة كالسرطان والتشوهات القلبية وأمراض الكبد والمناعة.

تشريفة عتيّة، الناجية من سرطانين، وشقيقتها نافية، المصابة بأمراض قلبية وجلدية، ليستا سوى مثالين على ما تعيشه مئات الأسر القاطنة قرب المجمع. ومع ذلك، قررت السلطات مؤخرا شطب الفوسفوجيبس، وهو من أخطر مخلفات الإنتاج الكيميائي، من قائمة النفايات الخطيرة، في خطوة وصفت بأنها تضرب أبسط قواعد الوقاية البيئية، إذ يحتوي هذا المركب على مواد شديدة السمية مثل الرصاص والزرنيخ، وله تأثير مباشر على التربة والمياه الجوفية.

وبينما تتحاشى بعض الجهات الطبية الإدلاء بتصريحات صريحة حول الربط بين الأمراض والتلوث، خوفا من ضغوط محتملة، يواصل السكان دق ناقوس الخطر. فقد خرجت مظاهرات عدة خلال الأسابيع الماضية، رفعت فيها لافتات كتب عليها “أريد أن أعيش”، في رسالة تعبر عن يأس متنام من وعود سياسية لم تترجم إلا بمزيد من الإهمال.

 تطالب السيدة مونة بوعلي، التي تسكن على مقربة من المجمع، على الأقل بوقف تصريف المخلفات في البحر والهواء، وتدعو إلى استخدام العائدات المتأتية من الفوسفات في ترميم البيئة المنهكة، بدل توسيع النزيف. أما والدتها ذهبية، الكفيفة والمصابة بمرض مناعي، فتقول بمرارة: “لتأخذ الدولة قابس كلها، لا نريد أن نعيش في مدينة تحصد منا الأمراض وتحصد منها الأرباح”.

في مفارقة حزينة، ما زالت بعض العائلات في قابس تتذكر لحظة افتتاح المجمع سنة 1972 على يد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حين خرجت الحشود فرحا بما اعتُبر آنذاك رمزًا للحداثة والتقدم الصناعي. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، تدرك كثير من تلك العائلات أنها كانت تحتفل، دون أن تدري، ببداية زمن المرض والموت البطيء.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض