“سد النهضة” الإثيوبي.. عندما تتحول المياه إلى “قوة إنتاج” سيادية!

تحرير: ماهر الرفاعي

تعتبر المياه ثروة طبيعية مملوكة لجميع البشر، إلا أن التقسيمات الترابية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، حولتها إلى “قوة إنتاج” تثير صراع النفوذ والقوة بين الدول والفئات الاجتماعية المختلفة. وقد تعزز هذا المنحى في التعامل مع المياه بالتزامن مع المشاكل التي تعانيها الثروة المائية في عدد من بلدان العالم، خاصة الجنوبية منها. إن المياه بهذا المعنى تحولت إلى وسيلة من وسائل الضغط والتدخل في السياسي والتهديد الاقتصادي، ما يجعلها قوة إنتاج لا تقل قيمة وأهمية عن القوى الإنتاجية الأخرى.

ومن أبرز الأمثلة المعاصرة لهذا التحليل نأخذ على سبيل المثال التوتر السياسي بين مصر وإثيوبيا بسبب مشروع “سد النهضة” الإثيوبي؛ هذا المشروع الذي خرج بالفعل من حيز التخطيط إلى حيز الإنجاز، بل إن أشغاله قد اكتملت تنتظر ساعة الافتتاح وفق ما أعلنه آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي. ولم يكتفِ آبي أحمد بهذا الإعلان، بل دعا بلدي مصب نهر النيل، مصر والسودان، للحضور إلى افتتاح السد في شتنبر المقبل من العام الجاري. ويقول المسؤول الإثيوبي إن “سد النهضة” لا يشكل خطرا على مصر والسودان، بل من المنتظر أن يصبح موضوع تعاون لا موضوع صراع بين البلدان الثلاثة. غير أن مصر تعتبر التصرف الإثيوبي “قرارا أحاديا وعملا بالأمر الواقع يخالف القانون الدولي” حسب ما جاء في تصريح وزير الري المصري، هاني سويلم، عقب دعوة آبي أحمد.

تتحجج إثيوبيا بحقها السيادي على مياهها، فيما ترى مصر ذلك انتهاكا لتاريخها الحضاري (حيث العلاقة التاريخية بنهر النيل) وتهديدا لمصالحها الاقتصادية. والسؤال المطروح هو: ما الذي تستفيده إثيوبيا من “سد النهضة” وما الذي تخسره مصر ببنائه؟ للأمر علاقة بطبيعة النشاط الاقتصادي في البلدين، فكلاهما يعتمد المياه في هذا النشاط، إما بشكل مباشر كما يحدث في الزراعة وبعض الصناعات، أو بشكل غير مباشر في الصناعات التي تحتاج أشغالها إلى كهرباء (استخراج الطاقة الكهرومائية). المتراجحة المطروحة والمتوقعة هي أن كل تقدم في النشاط الاقتصادي الإثيوبي قد يقابله تراجع في بعض القطاعات الزراعية والصناعية في مصر التي لا تستهلك من مياه النيل إلا حوالي 55,5 مليار متر مكعب سنويا حسب الإحصائيات.

ربما اقتربنا الآن من معرفة سبب تشدد الخطاب المصري الذي نحا نحو تجاوز الدبلوماسية في التعامل مع التحدي الإثيوبي. ولمزيد فهم لهذا الخطاب المصري الصارم، يمكن الانتباه إلى مسألتين أساسيتين: المسألة الأولى لها علاقة بواقع الاقتصاد المصري المتراوح بين مشاكله من جهة وبين مشاريع كبرى تنجزها الدولة المصرية من جهة أخرى، أما المسألة الثانية فلها علاقة بالتحديات الجيوسياسية التي تواجه الوجود المصري وقراره السيادي واختياراته السياسية والعسكرية والاقتصادية. التخوف المصري لا يفسر اقتصاديا فقط، كما تذهب بعض التقارير. وإنما له تفسير جيوسياسي أيضا، تخاف مصر على إثره من تحول “سد النهضة” إلى وسيلة للضغط عليها من قبل إثيوبيا و“حلفائها”.

أما السودان، فإن معاناتها ليست وليدة اكتمال أشغال “سد النهضة” فحسب، بل إنها رصدت تراجع نسبة المياه المتدفقة إليها منذ مدة، ما يعني أن التحكم الإثيوبي بمياه النيل يتم وفق مبدأ “التدرج الاستراتيجي”. كما أن عمل السد الإثيوبي قد يعرضها هي نفسها للضغط والابتزاز، لا بتقليص حجم المياه المتدفقة إليها فحسب، وإنما بتهديدها بالفيضانات كلما ارتفع منسوب المياه في “سد النهضة” أكبر من القدرة الاستيعابية لإثيوبيا، أو كلما أصبحت الحاجة السياسية ماسة للتلويح بورقة “إطلاق مياه السد”. وهنا ينبغي استحضار هذه التحديات في ظل المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تعيشها السودان، والتي تحول اليوم بينها وبين تنظيم وتنمية قدراتها الاقتصادية، فما بالك بمواجهة التحديات الخارجية!

وبخصوص حديث إثيوبيا عن “فرص التعاون” و“حسن النية” فهو حديث لا يصلح في علاقات سياسية قائمة على أساس المصالح لا على أساس النوايا. إن “مياه النيل” في علاقتها (في علاقة إثيوبيا) بمصر والسودان مجال للتنافس والصراع مهما حاولت إخفاء ذلك، والتنافس في هذه الحالة جيوسياسي من جهة، واقتصادي من جهة أخرى. فمثلا، بقدر حاجة الرأسمال المصري إلى تنمية قواه الإنتاجية في الداخل حيث للمياه دور كبير في هذه التنمية، بقدر ما هو في حاجة إلى تحصين حدوده وموقعه الجيوسياسي في المنطقة حيث ل“سد النهضة” موقع قد يربك الحسابات الجيوسياسية المصرية.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض