العفر في القرن الأفريقي: شعب واحد تمزقه الحدود وتوحده الذاكرة

تحرير: صفاء فتحي

تشهد منطقة القرن الأفريقي حالة معقدة من التداخلات الاجتماعية والسياسية، تتجسد في وضعية جماعة العفر التي تنتمي إلى عرق مترابط يتجاوز الحدود المصطنعة بين إثيوبيا، إريتريا، وجيبوتي. فقد أسهمت الخرائط الاستعمارية في تشتيت هذا الشعب، متجاهلة الروابط الثقافية والتاريخية العميقة التي تجمع أفراده، ما جعله يعيش حالة من الانقسام بين الولاء القبلي والهوية الوطنية المفروضة. هذا التشظي ولد شعورا بالغربة داخل الأوطان، وزاد من حدة الصراع الداخلي لدى العفر في مساعيهم للتوفيق بين انتمائهم العرقي ومتطلبات الدولة الحديثة.

يحافظ العفر على هويتهم الجماعية القائمة على اللغة والعادات والتقاليد، متجاوزين الحواجز الجغرافية والقيود السياسية. إلا أنهم يواجهون ضغوطا رسمية تهدف إلى دمجهم في أطر قومية موحدة، غالبا على حساب خصوصيتهم الثقافية. هذا الوضع دفع الكثيرين منهم إلى تبني مواقف دفاعية لحماية هويتهم من الذوبان، بينما لجأ آخرون إلى التكيف بحذر مع متطلبات الدولة، في ظل هامش محدود من الحرية. في المقابل، استخدم العفر أحيانا كورقة ضغط في النزاعات الإقليمية، إذ روجت تصورات تعتبرهم جماعة ذات ولاءات عابرة للحدود، ما زاد من الشكوك تجاههم وعمق تهميشهم.

فرضت الحدود السياسية واقعا جديدا أعاد تشكيل الولاءات الفردية والجماعية، وقلص من إمكانيات التواصل بين العفر على جانبي الحدود. انقسمت القبائل، انقطعت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وتحولت الحدود من خطوط إدارية إلى حواجز نفسية وثقافية، تفرض على كل فئة ضغوط الولاء للدولة وتحد من قدرتها على الحفاظ على روابطها التاريخية. هذه القطيعة غذت النزعات الانعزالية وأضعفت قدرة العفر على بلورة مشروع سياسي موحد، بينما زادت تدخلات الحكومات في شؤونهم الداخلية، واستغل وجودهم في صراعات مع الدول المجاورة.

ساهمت السياسات التعليمية الرسمية، التي تهمش اللغة العفرية وتفرض لغات الدولة، في إضعاف الهوية الثقافية وانتقالها إلى الأجيال القادمة. في الوقت نفسه، رافق هذا التهميش تصاعد المخاوف من تحول العفر إلى جماعة مهمشة داخل أوطانها، محرومة من تمثيل حقيقي في المؤسسات السياسية والإدارية. ومع ذلك، ظل العفر ينسجون شبكات غير رسمية تعزز تماسكهم، عبر الزواج، العادات المشتركة، والتجارة البينية، ما شكل مقاومة صامتة في وجه محاولات الإذابة القسرية.

في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات شبابية عفرية تعتمد على الإعلام الرقمي لتعزيز الوعي بالحقوق الثقافية والسياسية، وبرزت حوارات محلية تهدف إلى كسر عزلة المجتمع وإيجاد قنوات تواصل مع الحكومات. غير أن هذه الجهود، رغم أهميتها، ما زالت محدودة التأثير في ظل غياب إرادة سياسية رسمية تعترف بالتنوع وتعتبره قيمة وطنية.

يكشف واقع العفر في القرن الأفريقي هشاشة العلاقة بين الانتماء العرقي والولاء القومي في منطقة مثقلة بالصراعات الحدودية والسياسية. ففي قلب هذه الجغرافيا المنقسمة، يواجه العفر اختبارا شاقا للحفاظ على هوية متجذرة تاريخيا وثقافيا، في مقابل ضغوط الانصهار في مشروعات وطنية موحدة لا تحتفي بالتعدد. إن صمودهم لا يقاس فقط بقدرتهم على التشبث بتراثهم، بل أيضا بمدى نجاحهم في فرض وجودهم كجماعة لها حقوق ومكانة ضمن فضاء سياسي يعترف بالتنوع ويحميه.

تظل قصة العفر مرآة تعكس تعقيدات رسم الخرائط السياسية في أفريقيا، وتطرح تساؤلا عميقا حول إمكانية بناء دول حديثة تعترف بحقوق الجماعات الأصلية وتحمي إرثها الثقافي، بدلا من تحويله إلى ورقة تفاوض أو أداة تهميش. وبينما تواصل الحدود فرض صمتها، تواصل ذاكرة العفر البوح بحلم قديم لوطن يتسع للجميع، دون أن يفرض عليهم التنازل عن جذورهم أو خوض صراعات من أجل البقاء.

 

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض