من الأقنعة إلى المنحوتات: الفن الأفريقي كذاكرة حية للقارة

تحرير: صفاء فتحي

يعد الفن الأفريقي شاهدا على عمق الحضارات التي ازدهرت في القارة منذ آلاف السنين، إذ يسبق تاريخه الحقبة المكتوبة بقرون طويلة. ورغم ما يحيط بتاريخ أفريقيا القديم من غموض، يظل الاعتقاد راسخا بأنها مهد البشرية، ما يضفي على فنونها قيمة إنسانية عالمية. ولا تقتصر دراسة هذا الفن على الجوانب الجمالية أو الأسلوبية فحسب، بل تمتد إلى فهم سياقاته الاجتماعية والثقافية، سواء أكانت المنحوتات والأقنعة صنعت للترفيه، العبادة، مقاومة السحر،  تعزيز الخصوبة، أو ضمن طقوس التحول الروحي.

تعتبر المنحوتات المكتشفة في نيجيريا من أقدم الآثار الفنية في القارة، إلا أن غياب التوثيق الأثري وصعوبة الحفاظ على هذه القطع جعلا دراسة طبيعتها الأصلية معقدة. فلم تصنف الأعمال في المجتمعات الأفريقية القديمة كمنجزات جمالية خالصة، بل ارتبطت قيمتها بوظائفها المؤقتة ومناسباتها الطقسية.

مع بدايات الاستعمار في القرن التاسع عشر، تغيرت النظرة إلى الفن الأفريقي، إذ تجاهل المستعمرون قيمته الثقافية، ولم تمنح الأعمال الأصلية التوثيق والحماية. وفي مؤتمر برلين عام 1884، رسمت حدود جديدة للقارة وفق مصالح القوى الأوروبية، دون مراعاة للتركيبات العرقية أو الثقافية، ما خلف آثارا اجتماعية لا تزال ماثلة حتى اليوم.

ورغم الحواجز الجغرافية والسياسية، ظلت الثقافات الأفريقية على تواصل دائم عبر التبادل التجاري والثقافي، ما منح فنونها طابعا ديناميكيا متجددا. ومع ذلك، ساهمت النظرة الغربية في اختزال الفن الأفريقي ضمن مفهوم “التقليدي” الذي يسبق الحقبة الاستعمارية، متجاهلة حيويته وتطوره المستمر.

شهدت أفريقيا حركات استقلال واسعة بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين، لكن التحديات المرتبطة بالإرث الاستعماري، مثل النزاعات والفقر، استمرت. كما أدى انتشار الأديان العالمية والسلع المستوردة إلى تغييرات جوهرية في الممارسات الفنية التقليدية، فانحسرت الحرف اليدوية لصالح المنتجات الحديثة.

أمام هذه التحولات، لجأ الفنانون إلى توظيف الإبداع كوسيلة للذاكرة والحفاظ على الهوية، فظهرت أعمال جديدة تخاطب الطبقات المتوسطة والجمهور الأجنبي، تجمع بين الأصالة والحداثة.

حين نقلت القطع الفنية الأفريقية إلى الغرب، وضعت أولا في متاحف التاريخ الطبيعي كمواد إثنوغرافية، قبل أن تحظى لاحقا بالاهتمام الجمالي في أوائل القرن العشرين. أثرت الأقنعة والمنحوتات الأفريقية في فناني الطليعة الأوروبيين، مثل بابلو بيكاسو، الذي استلهم أقنعة غرب أفريقيا لتطوير تجاربه التجريدية، ما ساهم في إعادة تعريف الفن الحديث.

رغم فصلها عن سياقها الطقوسي، احتفظت الأقنعة الأفريقية بقيمتها التعبيرية، إذ جسدت الرابط العميق بين الإنسان والطبيعة والروح. يمثل القناع وسيلة للتحول، إذ يتيح لمرتديه التقمص الروحي والتواصل مع العوالم غير المرئية، ما يعكس مركزية البعد الروحاني في الثقافة البصرية الأفريقية.

وبينما تتنوع استخدامات الأقنعة بين المجتمعات، تظل محملة بدلالاتها الدينية والرمزية، وتنتقل مهارات صناعتها جيلا بعد جيل. كما استخدمت بعض الأقنعة لأغراض تأديبية، فتصنع خصيصا للإذلال والعقاب، ما يكشف أدوارا اجتماعية متعددة تتجاوز البعد الجمالي.

اليوم، يحظى الفن الأفريقي بتقدير عالمي، وتحول إلى موضوع دراسات أكاديمية معمقة، أظهرت تنوعه الأسلوبي والدلالي. وأسهم عمل الأنثروبولوجيين ومؤرخي الفن في كشف ثرائه وتوثيق مكانته ووظائفه في المجتمعات، ما مكن العالم من إعادة اكتشاف أفريقيا، ليس فقط بوصفها مصدرا للمواد الخام، بل كفضاء خصب للإبداع الإنساني والمعرفة البصرية.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض