تشاد والجامعة العربية: إعادة الانتماء السياسي أم ورقة ضغط استراتيجية؟

تحرير: صفاء فتحي

تبرز العلاقة التاريخية بين تشاد والعالم العربي تداخلا عميقا في الهويات الثقافية والدينية، تجذر منذ القرون الوسطى عبر طرق التجارة العابرة للصحراء والروابط التعليمية والدينية. شكلت القبائل العربية والإسلامية جزء من نسيج المجتمع التشادي، ما جعل الانفتاح على المحيط العربي امتدادا طبيعيا لهوية البلاد. عقب الاستقلال في عام 1960، حاولت تشاد تثبيت مكانتها ضمن محيطها العربي والإفريقي معا، لكنها واجهت خلال العقود اللاحقة تحديات داخلية، ما أثر على عمق تلك الروابط.

مع بداية السبعينيات، اتخذت تشاد خطوات أولية نحو الاقتراب من جامعة الدول العربية، لكنها لم تترجم إلى عضوية دائمة أو نشاط مؤسسي مستمر. طوال الثمانينيات والتسعينيات، ظلت العلاقات مقتصرة على تعاون محدود في مجالات التنمية، التعليم، والدعم الإنساني، بينما كانت تشاد تركز بشكل أكبر على تأمين استقرارها الداخلي، خاصة في ظل صراعات مسلحة متعددة وموجات جفاف وأزمات اقتصادية متلاحقة.

مع مطلع الألفية، بدأت تشاد في تعزيز مكانتها الإقليمية بدعم من شراكات عسكرية وأمنية، خصوصا مع فرنسا وشركاء أفارقة، ما أبعدها نسبيا عن الانخراط العميق في المحيط العربي. غير أن التحولات السياسية الأخيرة، خصوصا بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي في 2021 وصعود المجلس العسكري، دفعت السلطات الجديدة إلى إعادة التفكير في شبكة تحالفاتها الخارجية. استقبلت زيارات رسمية لوزراء الخارجية التشاديين في عدد من العواصم العربية كإشارات واضحة لرغبة في إحياء المسار العربي، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى دعم اقتصادي واستثماري واسع.

اعتمدت تشاد في هذه المرحلة مقاربة جديدة، تراهن على الجامعة العربية كمنصة دبلوماسية لتوسيع حضورها الدولي، وكآلية لجذب الاستثمارات الخليجية تحديدا، بالنظر إلى حاجة البلاد إلى إعادة إعمار البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة. سيسمح هذا الانفتاح أيضا بالوصول إلى برامج تمويل ومساعدات قد تساهم في تخفيف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

في المقابل، يواجه هذا النهج عراقيل داخلية، أبرزها ضرورة توحيد الرؤية الوطنية بين مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية، حيث لا يزال جزء من المجتمع يعتبر تشاد أقرب إلى بعدها الإفريقي، ويخشى أن ينعكس الانفتاح العربي على هوية البلاد أو يفرض عليها أجندات خارجية. كما يثير التوجه أسئلة حول قدرة تشاد على موازنة التزاماتها تجاه الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الأخرى، خاصة في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد في منطقة الساحل.

يمكن اعتبار إحياء العلاقة مع الجامعة العربية اليوم استراتيجية متعددة الأبعاد، تهدف إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وتنموية، وإعادة تموضع تشاد كفاعل دبلوماسي بين إفريقيا والعالم العربي. نجاح هذه الرؤية سيتوقف على قدرة السلطات التشادية على إدارة التحالفات بمرونة، وضمان عدم تحول الانخراط العربي إلى أداة ضغط قد تضعف استقلالية القرار الوطني. يفتح هذا الانخراط الباب أمام فرص حقيقية لتعزيز الاستثمارات، تطوير قطاعات الطاقة، الزراعة، دعم التعليم والصحة، وهو ما تحتاجه تشاد بشدة في هذه المرحلة.

يمثل هذا المسار فرصة لتشاد لإعادة صياغة موقعها في الخارطة الإقليمية والدولية، عبر توظيف البعد العربي كرافعة دبلوماسية، دون التفريط بامتدادها الإفريقي. إذا نجحت تشاد في تحقيق هذا التوازن، فقد تتمكن من بناء نموذج تنموي جديد، وتحقيق استقرار طويل الأمد، ينعكس مباشرة على حياة ملايين المواطنين.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض