وفاة 28 شخصا في حفلة عيد ميلاد بمدغشقر : فهل تكشف الحقائق عن إهمال صحي أم جريمة متعمدة ؟

 

تحرير: وداد وهبي

في الرابع عشر من شهر يونيو المنصرم، تحولت أجواء الفرح في بلدة أمبوهيمالازا إلى مأساة جسيمة، حين لقي 28 شخصا مصرعهم بعد حضورهم حفل عيد ميلاد فتاة في العشرين من عمرها. بدت الأطعمة التي زخر بها الحفل عادية في ظاهرها، وقد تضمت مقبلات ونقانق وسلطات ولحوما مقلية، لكن ما إن انقضت ساعات قليلة حتى سقط أحد الحاضرين فجأة وأعقبه  بعد ذلك تدهور سريع لحالة عشرات المدعوين، حيث لفظ بعضهم أنفاسه في أقل من يوم واحد تحت أجهزة التنفس، غير قادرين حتى على الكلام. وقد اعاد المشهد إلى الواجهة سؤالا لطالما طرح نفسه في مدغشقر: أين الحقيقة، ولماذا تلتزم الدولة الصمت؟

في بادئ الأمر، بدا التسمم الغذائي الناتج عن البوتوليزم هو التفسير الأكثر منطقية، نظرا لتطابق الأعراض مع تلك التي تحدثها هذه البكتيريا العصبية الفتاكة كالغثيان والاضطرابات في الرؤية والشلل التدريجي وضيق التنفس الحاد. غير أن الحكومة سرعان ما استبعدت هذا الاحتمال، متحدثة بدلا من ذلك عن “مادة خطيرة” لم تحدد طبيعتها، مما أثار استياءا عارما لدى الأهالي، خاصة أن الضحايا كانوا في الغالب من الشباب ومن أسر تعيش على هامش الفقر. وقد عبرت إحدى الأمهات المكلومات عن حيرتها وغضبها بقولها: قال الوزير إن العينات قد نقلت إلى الخارج، وإن الترياق سيوفر لاحقا، لكن لما كل هذا الغموض؟ لماذا لا يصارحوننا بما يجري؟ أهناك حقيقة أخرى يريدون إخفاءها عنا؟

وفي تحقيق أجرته قناة TV5Monde، تبين أن العينات قد نقلت إلى معهد الطب الشرعي في ستراسبورغ، وهو مركز لا يمتلك القدرة المخبرية على كشف آثار البوتوليزم. فضلا عن ذلك، لم يتم تحليل سوى عينة واحدة مجهولة الهوية، مما يضعف مصداقية كل ما صدر عن الجهات الرسمية. و الأسوأ من ذلك، أن مدغشقر لا تملك مصلا مضادا للبوتوليزم، وإذا كانت تلك هي الحقيقة فعلا، فإن الحكومة قد أضاعت على المصابين فرصة للنجاة عبر طلب عاجل من منظمة الصحة العالمية.ولا تزال عشرات الحالات تصارع الموت في غرف الإنعاش، بينما يزيد التعتيم من فظاعة الجرح.

تفاقمت موجة الذعر في الشارع. فقد فقد بعض الباعة زبائنهم، خصوصًا أولئك الذين يبيعون الماكولات المقلية، خاصة بعد انتشار شائعة تتحدث عن دونات مسممة كانت ضمن بوفيه الحفل. ومع تصاعد الروايات غير الموثقة، ظهرت تفسيرات شعبية تتحدث عن السحر والشعوذة، وزاد من تعقيد المشهد توقيف امرأة تعمل كـ”مارابو” (معالجة روحانية)، دون دليل حاسم. وكأن غموض الرواية الرسمية منح هذه التفسيرات أرضية صلبة للإنتشار. وفي بلد ما تزال فيه الثقافة الروحية جزءا من النسيج اليومي، لا عجب أن تتقدم فرضية التسميم العمد كأقرب تفسير في أذهان الناس.

لم تعد الكارثة محصورة في نطاق الصحة العامة، بل كشفت عن تصدعات عميقة في البنية السياسية والاجتماعية للدولة. فالهشاشة المزمنة في البنية التحتية، والانقطاعات الكهربائية المتكررة، والعجز المستمر عن تأمين سلسلة تبريد فعالة، كلها عوامل تفضح تقاعس المؤسسات وتغذي شعور المواطنين بالتخلي والإهمال. فعلى سبيل المثال تعاني شركة “جيراما”، المكلفة بتوفير الكهرباء والماء، من أعطال متكررة وهيكل إداري مترهل، في وقت ترزح فيه الأغلبية تحت خط الفقر، بينما تتكدس الامتيازات في يد قلة نافذة.

في مثل هذا الواقع، تصبح كل وفاة غامضة أكثر من مجرد مأساة فردية، بل مؤشرا على انهيار المنظومة برمتها. حيث تختزل أجساد الفقراء إلى أدوات صامتة تشهد على تخلي الدولة، وتتحول آلامهم إلى مرآة تعكس لامبالاة من يفترض بهم توفير الحماية والرعاية. وكما قالت الصحفية غايل بورجيا بمرارة صادقة: “إنها مآس كان يمكن تفاديها، لكنها لا تطال إلا أولئك الذين لا صوت لهم.”

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض