دور الوساطة في استعادة الممتلكات الثقافية الإفريقية من المتاحف الأوروبية

تحرير: رضى الغزال

تشهد العديد من الدول الإفريقية منذ عقود مطالب متكررة باستعادة ممتلكاتها الثقافية والتاريخية التي نقلت إلى خارج القارة خلال فترات الاستعمار، خصوصا نحو المتاحف والمؤسسات في أوروبا الغربية. وتشير التقديرات إلى أن ما يقارب تسعين في المئة من التراث المادي الإفريقي محفوظ اليوم في متاحف كبرى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا، حيث تم نقل الآلاف من القطع الأثرية والمنحوتات والرموز الدينية إلى الخارج خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

في هذا السياق، لم تعد الوسائل التقليدية كالمواجهة القضائية أو الضغوط الدبلوماسية كافية لتحقيق تقدم حقيقي. ومع تزايد الوعي الدولي بضرورة إعادة هذه الممتلكات إلى مواطنها الأصلية، أصبحت الوساطة خيارا حديثا يساهم في بناء حلول توافقية بعيدا عن النزاعات الحادة. وتعتمد الوساطة على جمع ممثلين عن الدول الأصلية، مثل نيجيريا أو بنين أو مصر أو الجزائر، مع الجهات الحائزة على القطع، من متاحف حكومية أو مؤسسات خاصة في فرنسا أو المملكة المتحدة أو سويسرا، لإطلاق حوار مباشر حول سبل الإعادة وشروط الحفظ وأشكال التعاون المستقبلي.

وقد شهدت إفريقيا بالفعل تجارب ناجحة اعتمدت هذا النهج، مثل استعادة بنين عام 2019 لخمس وعشرين قطعة من كنوز مملكة أبومي التاريخية بعد مفاوضات طويلة مع فرنسا، كما أعيدت إلى مالي تماثيل تاريخية تعود إلى حضارة الدوغون، وأعاد متحف برلين عدداً من القطع الأثرية إلى ناميبيا بعد وساطات متتالية. وتتميز هذه العمليات غالبا بوجود مراحل متعددة، تشمل مراجعات علمية وقانونية، وتبادل للخبرات حول أساليب الحفظ والعرض في المتاحف، كما تراعي مخاوف الدول الحائزة فيما يتعلق بالسلامة وحقوق الملكية الفكرية.

وتبرز أهمية الوساطة في قدرتها على خلق مناخ من الثقة بين الطرفين، إذ تضمن سرية التفاوض وتفسح المجال أمام صياغة حلول تتناسب مع خصوصية كل حالة على حدة، دون فرض طرف منتصر وآخر خاسر. كما تسمح بمناقشة مسائل حساسة، مثل إمكانية إعارة القطع لفترات محددة أو تنظيم معارض متنقلة أو توقيع اتفاقيات توأمة بين المتاحف الإفريقية ونظيراتها الأوروبية. وبفضل المرونة التي توفرها الوساطة، بات بالإمكان تجاوز العراقيل البيروقراطية والتشريعية، مع الحفاظ على مصالح جميع الأطراف وتعزيز التعاون الثقافي بين الشمال والجنوب.

أخيرا، يتضح أن الوساطة تشكل اليوم مسارا واقعيا وفعالا أمام الدول الإفريقية الساعية لاسترداد تراثها الثقافي، إذ تجمع بين احترام القانون الدولي والاعتراف بحق الشعوب في امتلاك تاريخها، وتمنح للمجتمعات الإفريقية فرصة إعادة التواصل مع رموزها الحضارية في إطار شراكات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض