هل انتهى الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية؟!

محمد زاوي

للوجود الاستعماري الفرنسي في إفريقيا تاريخ قديم يعود إلى القرن 17 حيث فرضت الشركات الفرنسية وجودها على سواحل السنغال بلغة الحديد والنار.. وينتمي هذا النوع من الاستعمار إلى “التشكيل الاستعماري” الكلاسيكي العسكري (القديم) حيث يتم تصدير رأس المال المالي الاحتكاري إلى مجتمعات الجنوب بالقوة ورغما عن أنف التطور الطبيعي للبنى الإنتاجية في هذه المجتمعات. وهو عين ما فعلته فرنسا في عدد من البلدان الإفريقية من شمالها (المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا) إلى وسطها (تشاد، إفريقيا الوسطى، الكاميرون، الكونغو، الغابون)، ومن غربها (بوركينا فاسو، الكوت ديفوار، مالي، النيجر، توغو، بنين، غينيا) إلى شرقها (جزر القمر، مدغشقر، جيبوتي).

(خريطة الاستعمار الفرنسي في القارة الإفريقية)

وقد بدأ هذا “التشكيل الاستعماري” وسيطر في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث كان النفوذ في العالم مقتسما بين قوتين استعماريتين كبيرتين هما فرنسا وبريطانيا؛ إلا أنه شرع في التراجع بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد بروز قطبين جديدين سيطرا على العالم منذ تلك الفترة إلى غاية 1989 (سقوط جدار برلين) هما: الحلف الأمريكي (الناتو) والحلف السوفييتي (وارسو). ومنذ ذلك الحين بدأ انحسار الوجود الفرنسي في إفريقيا حتى بلغ ما هو عليه اليوم، بصعود قوى أخرى أبرزها الصين.

وفي ذات الصدد، أنهت فرنسا، أول أمس الخميس (17 يوليوز 2025)، وجودها العسكري في دولة السنغال، وبذلك تكون باريس قد سحبت قواتها العسكرية بشكل نهائي من كافة دول الغرب الإفريقي، في حين لم تعد تملك في كامل إفريقيا غير قاعدة عسكرية يتيمة في جيبوتي لا يجاوِز عدد أفرادها 1500 جندي فرنسي. وهنا لا بد من طرح سؤال: هل ينهي هذا الانسحاب العسكري الوجود الفرنسي في إفريقيا؟! وهل يضعف هذا الانسحاب المصالح الفرنسية في القارة الإفريقية؟! وما هي الخطط التي تعوّل عليها فرنسا لتدبير مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في القارة بكيفية جديدة؟!

أمام فرنسا عدة طرق لإعداة التموقع الجيوسياسي واسترجاع المبادرة من جديد في القارة الإفريقية، وهو ما يمكن اختصاره في ما يلي:

-تعزيز الوجود الاقتصادي وتطويره: وهو وجود تعرض لهزة كبيرة في سياسته القديمة، أي الاستعمارية التي لا تراعي حاجة البلدان الأصلية ولا حقها في تدبير مواردها الخام أو التحكم في الاستثمارات الجارية على أراضيها. لقد ولى زمن كانت الشركات الفرنسية تستنزف فيه الخامات الإفريقية بدون رقابة كما هو الحال في الكونغو (الكولتان) أو النيجر (اليورانيوم) أو السنغال (النفط) أو مالي (الذهب) الخ. ما يحدث اليوم هو فقدان فرنسا لحظ وافر من هذه المصالح، إن لم تكن قد فقدتها جميعا في بعض البلدان حيث وقعت الانقلابات العسكرية. وذلك بالإضافة إلى انسحاب كثير من الشركات الفرنسية من القارة، تاركة موقعها لشركات أخرى إما إفريقية أو أمريكية أو بريطانية أو صينية أو روسية أو تركية. في هذه المرحلة، يجب أن تفكر فرنسا في علاقاتها الاقتصادية مع الدول الإفريقية من جديد، وينبغي أن تعرض رغبتها في الاستثمار والتبادل التجاري على أساس “رابح-رابح”. فكل طريق غير هذا من شأنه أن يضعف فرنسا في ميزان القوى المتنافسة على فرص الاستثمار والتبادل في القارة.

-توقيع شراكات مع الدول الإفريقية الكبرى: وهي دول مثل مصر والمغرب وجنوب إفريقيا ونيجيريا الخ. ستتحول هذه الدول مستقبلا، أو لعلها أصبحت كذلك، إلى جسور للعبور إلى القارة الإفريقية وربط علاقات اقتصادية أو تجارية معها. وهنا يمكننا الحديث على سبيل المثال عن العلاقات بين أمريكا والمغرب ومصر، أو تلك القائمة بين الصين وجنوب إفريقيا. ولعل فرنسا قد انتبهت مؤخرا إلى هذا المنحى في العلاقة بإفريقيا، وهو ما يفسر اعترافها بمغربية الصحراء ورهانها على المغرب الذي يؤسس أكبر واجهة أطلسية إفريقية ستربط إفريقيا بكافة الاستراتيجيات العالمية عبر موقع جغرافي استراتيجي.

-ربط علاقات ببلدان إفريقية جديدة: وهو ما بدأته فرنسا فعلا، إذ أنها لم تعد مقتصرة في علاقتها على دول غرب ووسط إفريقيا، بل تحاول بعد انحسار مدها في عدد من دول الغرب والوسط ربط علاقات ببلدان شرق إفريقيا لعلها تعوض هنالك بطريقتين: تجاوز مخلفات التاريخ الاستعماري في ذهنية مستعمَريها، توقيع شراكات اقتصادية على أسس جديدة أقرب إلى الأسس التي تعتمدها الصين أو أمريكا أو روسيا.. وأبرز هذه الأسس الربح مقابل الربح، وليس الربح واستغلال الخامات الطبيعية وفائض القيمة المرتفع دون اعتبار لمصالح الدول الإفريقية صاحبة الحق.

-دخول غمار التسويات مع اللاعبين الكبار: والمقصود هنا كبار اللاعبين في القارة الإفريقية، وهم اللاعبون الذين فطنوا مؤخرا إلى أهمية القارة، أي بريطانيا وأمريكا والصين والهند وتركيا واليابان الخ.. وقد كان توسع مصالح هذه القوى في القارة متزامنا مع تراجع النفوذ الفرنسي بها. لقد صبح الوجود الفرنسي في إفريقيا مرتبطا في جزء كبير منه بعلاقة باريس بالمستثمرين الكبار في إفريقيا، ولذلك فهي مطالبة بتسويات داخل القارة أو خارجها تفتح لها أبواب الاستثمار في هذا البلد أو ذاك في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، من شأن التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الروسية الأوكرانية أن يحقق بعض المصالح للفرنسيين في إفريقيا بضمانة أمريكية.

-استثمار الوجود الثقافي القديم: وهو فرنكفوني أساسا، رغم تراجعه في كثير من دول إفريقيا، لصالح إما ثقافات وطنية محلية، أو ثقافات أخرى عالمية كالثقافة الأنجلوسكسونية التي تعتبر أكثر نجاعة في عالم اليوم؛ قلت: رغم هذا التراجع إلا أن الثقافة الفرنكفونية ما زالت حاضرة في القارة الإفريقية فارضة وجودها على عدد من بلدان القارة. وعندما نتحدث عن وجود ثقافي ولغوي فنحن نتحدث عن “سوق لغوية” تمهد الطريق لسوق أخرى اقتصادية وتدعمها، وتحفظ حيزا من الوجود الاقتصادي الفرنسي في إفريقيا.

 

 

 

 

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض