صراع الأجيال في إفريقيا: بين عبق التقاليد ورياح التغيير

تحرير: رضى الغزال

في قلب العواصم الإفريقية الكبرى، وبين الأزقة الضيقة للمدن الصغيرة، ينبض المجتمع بحياة مزدوجة؛ ففي الوقت الذي تحتفظ فيه الأسواق القديمة بطقوسها وروائحها وأصوات الحرفيين، تتقدم موجات الشباب بخطى واثقة نحو عالم رقمي سريع لا يعترف بالحدود. هنا تتواجه جاذبية التقاليد مع إغراء الحداثة، وتتجسد يوميا ملامح صراع هادئ بين جيلين؛ أحدهما يتمسك بجذور الماضي، والآخر يرسم معالم المستقبل على طريقته.

هذا المشهد اليومي، الذي يجمع بين أناشيد الجدات في المناسبات التقليدية، وحماس الفتيان لصيحات الموضة وتطبيقات التواصل الاجتماعي، يلخص التحولات العميقة التي تعيشها المجتمعات الإفريقية حيث تلتقي الهويات وتتشكل الثقافات من جديد.

تقاليد تترنح أمام الحداثة:

لطالما اعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن التقاليد تشكّل “الغراء الاجتماعي” الذي يحفظ تماسك الجماعة ويمنح الأفراد شعورا بالانتماء. لكن مع توسع الاتصال بالعالم، كما يشير أنتوني غيدنز في أطروحته عن “الحداثة والتفرد”، يصبح الفرد أكثر قدرة على إعادة صياغة هويته بمعزل عن الإطار التقليدي للأسرة أو القبيلة.
هذا ما نراه اليوم في إفريقيا؛ فالكبار ما زالوا ينظرون للعادات كسياج للأصالة والهوية، بينما يرى الشباب أن الهويات صارت متعددة ومفتوحة.

في بوركينا فاسو، مثلا، تراجعت طقوس مهرجان الأقنعة أمام انفتاح الشباب على الموسيقى الغربية، إلا أن مبادرات شبابية أعادت إحياء المهرجان بصيغة عصرية تجمع القديم بالجديد. في كينيا، ازدادت حفلات الزفاف ذات الطابع الحديث، لكن شباب مومباسا أطلقوا مبادرة العودة للجذور لدمج رقصات نجومبو التقليدية مع عروض بصرية حديثة، في مشهد يعكس فكرة “الانتقائية الثقافية” التي تحدثت عنها عالمة الاجتماع نانسي فريزر، أي قدرة الأجيال الجديدة على اختيار ودمج عناصر من الماضي والحاضر.

هل هي مواجهة أم تعايش؟

ينظر بعض الباحثين إلى صراع الأجيال بوصفه ظاهرة عالمية، لكن عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم أكد في دراسته الكلاسيكية عن الأجيال الاجتماعية أن لكل جيل تجربته التاريخية الفريدة، وأن الحوار بين الأجيال يصنع توازنا بين الاستمرارية والتجديد. هذا بالضبط ما يحدث في نيجيريا، حيث أصبح مغني البوب بيرنا بوي نموذجا للمزج بين التراث الموسيقي والإبداع المعاصر، وجعل أجيالا مختلفة تكتشف ألحانا قديمة في قوالب عصرية. وفي المغرب، نجحت مصممات شابات في تحديث القفطان التقليدي، فتحول إلى رمز يجمع الأصالة بالتجديد.

رغم ذلك، تظهر نقاط احتكاك في قضايا مثل ختان الإناث أو الزواج الجماعي في إثيوبيا. هنا تبرز أهمية أطروحات عالمة الاجتماع مارغريت ميد حول الاجتماع بين الأجيال، والتي أكدت فيها أن المجتمعات القادرة على فتح حوار حول القيم المتغيرة تستطيع تجاوز التوتر وتحويله إلى طاقة للتطور.

نحو جسور جديدة بين الماضي والمستقبل:

تنطبق فكرة بيير بورديو حول رأس المال الثقافي على إفريقيا اليوم؛ إذ يدرك كثير من الشباب أن الحفاظ على التقاليد يمنحهم مكانة ورصيدا في المشهد الثقافي العالمي، خاصة عندما يوظفون التقنيات الحديثة لتوثيق القصص والأمثال، أو ينقلون الحرف اليدوية عبر ورش ودورات رقمية في السنغال وجنوب إفريقيا.

ومع كل اختلاف، يبقى الحوار والابتكار عنصرين أساسيين لتجديد الأصالة وتطويرها، بما يتوافق مع تطلعات الأجيال الجديدة ويحافظ على جذور المجتمعات الإفريقية في عالم متغير.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض