خريطة العسكر والاقتصاد في إفريقيا.. محاولة لفهم التنافس الأمريكي-الصيني

محمد زاوي

اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية الصين بتوسيع نفوذها العسكري في إفريقيا؛ جاء ذلك على لسان الجنرال الأمريكي داغفين أندرسون، أحد كبار قادة الجيش الأمريكي، الذي قال إن “الصين تعمل على توسيع نفوذها العسكري في القارة من خلال تعزيز تعاونها مع عدد من الدول الإفريقية في مجالات الدفاع والاستخبارات”. ولم يقف اندرسون، الذي كان يتحدث خلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركي، عند هذا الحد، بل كشف أن بكين تسعى إلى “بناء قاعدة عسكرية على الساحل الأطلسي”، الأمر الذي اعتبره تهديدا للمصالح الأمريكية. وهنا يجب أن نتساءل: هل للأمر علاقة بالتهديد العسكري فقط أم أن إنشاء قواعد عسكرية صينية في إفريقيا يعكس تهديدات من نوع آخر؟ كيف ترى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة توسع النفوذ الصيني من خلال هذه القواعد؟

فلنبدأ أولا بالمقارنة بين الوجودين العسكريين الأمريكي والصيني في القارة الإفريقية؛ إذ نجده وجودا مختلفا من حيث مستوى النفوذ، كما هو مختلف من حيث كيفيته ممارسته من طرف كل دولة من الدولتين على حدة. تقف الصين عند حدود قاعدتها في جيبوتي باحثة عن منافذ أخرى للقارة عبر العلاقات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية (مع أنغولا وتنزانيا مثلا)، فيما تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية قاعدتها في جيبوتي معتمدة على قواعد عسكرية إما متنقلة أو شبه سرية أو سرية (كقواعدها في الصومال والنيجر وكينيا مثلا).

تبرر القوتان وجودهما بالمساعدة في أمن القارة ومكافحة العمليات والتحركات الإرهابية بها، إلا أن الأمر له علاقة باستراتيجيات أخرى. صحيح أن مبرر “مكافحة الإرهاب” حاضر ولا ينبغي إغفاله كما تنحو بعض التحليلات، غير أنه ليس المبرر الوحيد للوجود العسكري الأجنبي من جهة، إضافة إلى أنه لا يخلو من أغراض في الاقتصاد من جهة ثانية، وذلك لأن القارة المرتبكة المضطربة بالإرهاب ليست نتاج عوامل ذاتية فحسب، بل هي نتاج تدخلات أجنبية أيضا، وقد تربك حسابات كل من الصين وأمريكا. والحديث هنا إما عن قوى تبحث عن موطئ قدم في القارة، أو عن قوى تراجع نفوذها في أقاليم شاسعة من إفريقيا بعد تاريخ طويل من الاستنزاف والاستغلال.

أما بخصوص باقي العوامل المفسرة لوجود قواعد عسكرية لكل من الصين وأمريكا في القارة الإفريقية -غير مبرر “مكافحة الإرهاب”- فيمكن معرفتها بالرجوع  إلى المصالح الاقتصادية للبلدين في إفريقيا، وبطرح سؤال: ما الذي يستفيده الإقتصادان الأمريكي والصيني من القارة الإفريقية؟ هناك لا أقل من ثلاثة مصالح أساسية:

-مواقع المعادن، خاصة النفيسة منها والمستعملة في الصناعات الجديدة والبدلية، والتي أثارت انتباه القوى الأجنبية منذ عقود، إلا أنها تعبر اليوم عن مجال من مجالات الصراع بين الرأسمالين الصناعيين المدنيين الأمريكي والصيني من أجل تطوير قوى إنتاجهما البديلة. القواعد العسكرية تقترب من هذه المواقع المعدنية وتحمي الأصول المشتراة منها وتكشف وتنقب عن خباياها. إنها مؤسسات للبحث كما هي مؤسسات للحراسة، خاضعة لنظام عسكري يمنحها نجاعة علمية وإدارية وتقنية وجيواقتصادية أكبر.

-الأسواق الإفريقية: والحديث هنا عن أسواق البضائع، أي عن الأسواق المستقبلة لصادرات الرأسمال البضائعي الأجنبي. تمر هذه الصادرات عبر موانئ وطرقات، ولذلك فهي في حاجة إلى تأمين ومراقبة توفرهما القواعد العسكرية حال وجودها. كما قد تعمل هذه القواعد على دراسة وتقييم حركية الرأسمال البضائعي في الأسواق الإفريقية في أفق تجويدها بما يتوافق مع استراتيجيات الدول المصدرة. بهذا المعنى تتأسس علاقة بين التوسع العسكري والتوزيع البضائعي، وهي علاقة قديمة إلا أنها تتخذ اليوم وسائل جديدة، من بينها القواعد العسكرية داخل النفوذ السيادي للدول الحاضنة.

-الاستثمارات الجديدة: فإذا كنا قد تحدثنا في النقطة السابقة عن سوق البضاعة، فإن الحديث هنا ينصب حول أسواق الاستثمار، أي أسواق تصدير الرأسمال التمويلي (المالي)، بما هو نقل للاستثمارات الاحتكارية الغربية، أو الاستثمارات الأجنبية عموما، من بلدانها الأصلية إلى البلدان الإفريقية حيث الخامات الطبيعية والأراضي الشاسعة والامتيازات الضريبية واليد العاملة الرخيصة، وحيث القرب الجغرافي من الأسواق المحيطة بالقارة الإفريقية. هذه الاستثمارات الكبرى تحتاج إلى حماية، وهو ما توفره القواعد العسكرية لكل من أمريكا والصين.

الخلاصة التي يجب الانتباه إليها بعد هذا التحليل، هي أن التوسع الجيوسياسي والجيوعسكري يؤسس لتوسع من نوع آخر هو التنوع الاقتصادي، كما أن النفوذ الاقتصادي يفرض الوجود العسكري في البلدان الإفريقية بقوة واقع التفاوت بين الطرف الإفريقي وغيره. إنها علاقة جدلية بين الاقتصادي والعسكري، تجلت في القرن الماضي من خلال الحركة الإستعمارية العسكرية المباشرة، لكنها تتشكل في هذا القرن وانطلاقا من نهاية القرن الماضي بعدة أساليب غير مباشرة من أبرزها القواعد العسكرية.

إن السباق على تشييد قواعد عسكرية في إفريقيا ليس أمريكيا-صينيا، وإنما هناك دول أخرى كفرنسا التي ما زالت تتشبث بحظها في غرب ووسط إفريقيا بالإضافة إلى تبديل وجهتها باتجاه الشرق الإفريقي (تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي)، ومثل تركيا التي تمتلك قاعدة للتدريب العسكري في الصومال وتطمع في المزيل، وكذلك روسيا التي تنشط عسكريا في إفريقيا من خلال شركات خاصة كـ”فاغنر” (وهو ما قد يشكل نواة لقواعد عسكرية في المستقبل).. هذه معطيات ثابتة على الأرض، إلا أن التنافس بين أمريكا والصين تنافس من نوع آخر. فهو التناقض الجيوسياسي والاقتصادي الجوهري عالميا، وبالتالي إفريقيا.. باقي الدول تنشط بمنطق التكيف مع حركة هذا التناقض، أو تتحرك بهذه الكيفية أو تلك للحصول على مصالح بعينها مهما كانت هامشية في حركة التناقض الجوهري (الأساسي).

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض