“كاش كوش”.. حين تعيد العظام كتابة تاريخ المغرب القديم

تحرير : أفريكا آي

على سفوح الحجر الجيري المطلة على وادي لاو شمال المغرب، وفي موقع أثري يعرف باسم “كاش كوش”، يكشف فريق من الباحثين المغاربة، بقيادة العالم الشاب حمزة بنعطية، أسرارا غيرت نظرة المؤرخين إلى شمال أفريقيا، ونقلت شبه جزيرة طنجة من الهامش إلى قلب التاريخ المتوسطي القديم.

لم يكن الهدف من  هذه التنقيبات استخراج كنوز فاخرة أو آثار ملوك غابرة، بل البحث في الطبقات المنسية من التراب عن عظام متهالكة و فخار متآكل وبقايا طعام تعود إلى أناس عاشوا هنا قبل آلاف السنين. فكانت النتائج صادمة.

لطالما اعتبرت المنطقة المعروفة حاليا بشمال المغرب مجرد ممر في خريطة العصور القديمة، بلا استقرار حضاري يذكر. لكن اكتشاف ثلاث مراحل استيطانية متتالية بين 2200 و600 قبل الميلاد في “كاش كوش” نسف كل تلك الفرضيات، وأثبت أن مجتمعات زراعية متماسكة كانت تعيش وتتفاعل مع محيطها المتوسطي قبل وصول الفينيقيين بزمن طويل.

وقد كشفت تحليلات الكربون المشع والتنقيب في الطبقات الأرضية، عن مجتمع زراعي مستقر، يمتلك أدوات متقدمة نسبيا ويربي الماشية ويزرع الأرض ويمارس طقوسا يومية، بعيدا عن فكرة “الفراغ الحضاري” التي سيطرت على الأبحاث لعقود.

يؤكد بنعطية، الباحث في جامعة برشلونة، أن سكان “كاش كوش” لم يكونوا معزولين، بل كانوا جزءا من شبكة تمتد نحو جنوب إيبيريا وشرق المتوسط. وفي غياب كتابات توثق حياتهم، فإن ما تبقى من طعامهم وأدواتهم وعظامهم يكفي لرسم ملامح مجتمع متوازن ومستقر.

تنسجم هذه النتائج مع اكتشافات سابقة في جبل إيغود وسط البلاد (أقدم بقايا للإنسان العاقل في العالم، تعود لـ300 ألف عام)، وتافوغالت في الشرق، ودروة زيدان في الشمال، لتعيد رسم خريطة المغرب القديم كمركز نشط في تاريخ البحر الأبيض المتوسط.

 وتتمثل أحد أهم الاكتشافات في العثور على ثلاثة هياكل عظمية تعود إلى نحو 4900 قبل الميلاد. يعمل الفريق حاليا على استخراج الحمض النووي DNA منها، في خطوة قد تعيد رسم خريطة الهجرات البشرية بين أفريقيا وأوروبا.

يقول بنعطية: “لدينا مؤشرات قوية على وجود تزاوج واختلاط بين سكان جنوب أوروبا وشمال أفريقيا قبل 7000 عام، ما يعني أن مضيق جبل طارق لم يكن حاجزا، بل ممرا حيويا لعبور البشر والثقافات واللغات.”

لم تتوقف الرحلة البحثية  عند العصور الحجرية. فبحسب تصريحات الفريق، شهد شمال المغرب في القرن الرابع قبل الميلاد ظهور “الملكية المورية”، وهي مملكة امتدت من طنجة إلى وليلي، في وقت لم تكن الضفة الشمالية للمتوسط تعرف غير المدن-الدول الصغيرة.

يفسر هذا التفوق السياسي، بحسب بنعطية، سبب غزو الرومان لإيبيريا قبل الميلاد بـ200 عام، لكنهم لم يدخلوا المغرب إلا بعد 40 عاما من الميلاد. وحتى حين دخلوا، اقتصر وجودهم على مناطق ضيقة قرب وليلي.

 يرى الفريق الأثري  أن ما تم اكتشافه حتى الآن “ليس سوى واجهة الواجهة”. ويؤكد بنعطية أن عشرات المواقع الأثرية على امتداد الساحل الأطلسي ومحيط مراكش ما زالت غير ممسوحة، وقد تحدث ثورة معرفية إذا فتحت للبحث العلمي المنهجي.

كما يعول العلماء على تحليل الكولاجين من الهياكل العظمية لاستخراج الحمض النووي بنجاح، وربط المغرب جينيا بحركات الهجرة الكبرى التي شهدتها أوروبا في العصر البرونزي.

من “كاش كوش” إلى “جبل إيغود”، ومن العصر الحجري إلى نشوء الممالك، تتشكل رواية جديدة عن المغرب القديم. حيث لم يكن هذا البلد مجرد مستقبل سلبي للحضارات، بل فاعل مؤسس فيها، ومركز تفاعل حضاري مبكر له وزنه في تاريخ البحر الأبيض المتوسط. وما زال تراب هذه الأرض يزخر بالمزيد.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض