قامات صغيرة… ومآسي صامتة: التقزم ينهش طفولة إفريقيا

تحرير: وصال حجوط

في قلب القارة الإفريقية، حيث يلتقي تنوع الطبيعة بثقافة الشعوب، لا تزال حياة ملايين الأطفال مرهونة بظروف قاسية تتجاوز الجمال الظاهري للمنطقة. فرغم الإمكانيات الهائلة التي تزخر بها القارة السمراء، تعاني العديد من دولها من مشاكل اجتماعية وصحية عميقة، من أبرزها ظاهرة التقزم عند الأطفال، وهي إحدى أخطر مظاهر سوء التغذية وأكثرها تأثيرا على الأجيال القادمة.

التقزم ليس مجرد قصر في القامة، بل هو انعكاس مباشر لسوء تغذية مزمن يصيب الطفل في مراحل النمو الأولى، وخاصة خلال الألف يوم الأولى من حياته. يحدث ذلك عندما لا يحصل الطفل على تغذية كافية أو متوازنة، ما يؤدي إلى تأخر في النمو البدني والعقلي، وغالبًا ما تكون آثاره دائمة. ويعد الفقر، ونقص التوعية، وانعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى ضعف البنية الصحية والتعليمية، من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى انتشار هذه الحالة.

حياة الأطفال المتقزمين في إفريقيا ليست سهلة. ففي مجتمعات يغلب عليها الطابع التقليدي، ينظر إليهم أحيانا بنوع من الشفقة، أو حتى بالتهميش، خصوصا حين يقترن التقزم بإعاقة حركية أو ذهنية. وفي بعض القرى النائية، ما زالت تروج معتقدات خاطئة تربط بين التقزم والعوامل الروحية أو “اللعنات”، مما يعرض هؤلاء الأطفال للتمييز، بل وحتى العنف أو الإقصاء من التعليم وأحيانا يجبر الأطفال المستثنون من التعليم أو الوظائف على العمل في وظائف ترفيهية بذيئة، مثل العمل ضمن عروض “قزم المسرح” أو السيرك بأساليب تمثل استغلالا واضحًا محرومة من كرامتهم الإنسانية هذه النظرة الاجتماعية تشكل عبئا إضافيا على الأطفال وأسرهم، في ظل ضعف الحماية القانونية وقلة الدعم المؤسساتي.

الرعاية الصحية للأطفال الذين يعانون من التقزم في إفريقيا محدودة جدا، لا سيما في المناطق الريفية والفقيرة. غالبا ما تفتقر المراكز الصحية إلى الإمكانات اللازمة للكشف المبكر عن سوء التغذية، ولا تتوفر برامج متابعة غذائية أو تدخل علاجي فعال. في بعض الدول، مثل النيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يكون الوصول إلى الغذاء الصحي في حد ذاته تحديا يوميا، ما يجعل جهود الوقاية والعلاج غير فعالة على نطاق واسع. ومع أن هناك جهودا فردية ومبادرات محلية، فإنها تظل متفرقة ولا ترقى إلى مستوى الحاجة الحقيقية.

تقرير مشترك صدر مؤخرا عن اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية كشف عن أرقام مقلقة، تؤكد أن نحو 150 مليون طفل في العالم يعانون من التقزم، من بينهم 64.8 مليون طفل في إفريقيا وحدها. والأسوأ من ذلك أن إفريقيا هي المنطقة الوحيدة التي شهدت ارتفاعاً في هذه الظاهرة بين عامي 2000 و2024، في الوقت الذي بدأت فيه مناطق أخرى تسجيل تراجع نسبي. كما أن 42.8 مليون طفل إفريقي يعانون من الهزال، فيما بلغ عدد الذين يعانون من زيادة الوزن 35.5 مليون، وهو ما يظهر خللا عميقا في النظام الغذائي والرعائي في المنطقة. التقرير ذاته حذر من أن أقل من ثلث الدول تسير في الاتجاه الصحيح لتحقيق أهداف الحد من التقزم بحلول عام 2030، وهو ما يعكس حجم التحديات البنيوية التي تواجه الحكومات والمؤسسات الإفريقية.

ورغم التزامات الدول الإفريقية بالمواثيق الدولية، مثل اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى فجوة واسعة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي. في كثير من الحالات، تفتقر المؤسسات التعليمية والصحية إلى التجهيزات اللازمة لاستقبال الأطفال الذين يعانون من مشكلات نمو، كما

أن العاملين في هذه القطاعات نادرا ما يتلقون تدريبا متخصصا للتعامل مع هذه الفئات. وهذا ما يجعل حقوق هؤلاء الأطفال، وعلى رأسها الحق في الصحة، والتعليم، والمساواة، والكرامة، غير محمية فعليا في كثير من السياقات المحلية.

الوكالات الأممية مثل اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية شددت في تقاريرها الأخيرة على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة هذا الوضع، من خلال استثمارات مستدامة في التغذية، وتعزيز أنظمة الرصد، وخلق بيئات غذائية صحية. لكن حتى الآن، لا تزال الاستجابة بطيئة، والمبادرات مبعثرة، وغير كافية لإحداث تغيير هيكلي حقيقي.

في ختام هذه الصورة المركبة، يبدو أن التقزم في إفريقيا لم يعد مجرد أزمة صحية، بل تحول إلى مؤشر شامل على اختلالات أعمق تمس التنمية، والحماية الاجتماعية، وعدالة توزيع الثروات.

حماية الأطفال المتقزمين، والاعتراف الكامل بحقوقهم، ليست فقط ضرورة إنسانية، بل أيضا خطوة أساسية نحو مستقبل تنموي أكثر عدالة واستقرارا في القارة السمراء. فحين يحرم طفل من النمو السليم، تحرم الأمة من طاقة بشرية كان يمكن أن تكون قوة فاعلة في بنائها.

واتساب تابع آخر الأخبار على واتساب تليجرام تابع آخر الأخبار على تليجرام أخبار جوجل تابع آخر الأخبار على جوجل نيوز نبض تابع آخر الأخبار على نبض