تحرير : خديجة منصور
يمثل مفهوم التحرر في الفلسفة الحديثة فكرة أساسية تتعلق بالحرية الفردية، أي قدرة الإنسان على تجاوز القيود النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تقيد كرامته وحريته في العيش بكرامة، ويتقاطع هذا المفهوم مع مفهوم الحرية من زاويتين: الأولى، الليبرالية كما يراها جون لوك، الذي اعتبر أن البشر يولدون أحرارًا بطبيعتهم، وبالتالي يحق لهم التصرف وفقا لاختياراتهم ووفقا لحرية مطلقة، أما الثانية، فهي الاشتراكية التي تبناها كارل ماركس، الذي اعتقد أن التحرر يتطلب تحطيم الهيمنة التي تفرضها الطبقات الحاكمة، سواء كانت اقتصادية أو دينية أو سياسية، لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال ثورة اجتماعية تقيم النظام الاشتراكي الذي يضمن الحقوق للجميع ويحقق التكافؤ الاقتصادي.
وفي هذا السياق، نجد أن التحرر ليس مجرد نزعة فردية، بل هو سعي لتحقيق الذات الفاعلة كما يرى ألان تورين، وهذه الذات يمكن أن تتضافر مع ذوات أخرى لتشكيل حركة اجتماعية أو سياسية تسعى إلى التحرر، وهذا ما تجسد بوضوح في تجارب التحرر في أمريكا اللاتينية، حيث تأثرت الحركات التحررية هناك بالأفكار الثورية التي نشأت في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مما أسهم في تعزيز تطلعات الشعوب نحو الاستقلال والتحرر من الاستعمار.
كانت الثورتان الأمريكية (1775-1783) والفرنسية (1789) نقطة انطلاق حقيقية للحركات التحررية في أمريكا اللاتينية، حيث ألهمت هذه الثورات الشعوب اللاتينية في سعيها لتحقيق الاستقلال والحرية، وقد ساعد أيضًا التوسع الفرنسي بقيادة نابليون على تقويض النفوذ الإسباني في المنطقة، مما زاد من إشعال الشعور القومي في العديد من البلدان اللاتينية، إضافة إلى ذلك، استفاد المعارضون للاستعمار الإسباني من أعمال المفكرين الفرنسيين مثل مونتسكيو وجان جاك روسو، الذين طرحوا أفكارًا حول الحرية وحقوق الإنسان.
مع احتلال نابليون لإسبانيا عام 1808 وتنصيب أخيه جوزيف ملكًا، تفكك النظام الإسباني في مستعمراته الأمريكية، وبدأت هذه المستعمرات تشكك في ولائها للعرش الإسباني. وفي أعقاب الثورة ضد نابليون في إسبانيا، صدرت دستور إسباني عام 1812، مما شجع الثوار في أمريكا اللاتينية على متابعة كفاحهم من أجل الاستقلال.
تتزامن بداية التحركات الثورية في أمريكا اللاتينية مع عام 1810، حيث قاد سيمون بوليفار الثورة في فنزويلا، وفي العام التالي أعلن الاستقلال، ليواصل كفاحه بين 1821 و1830، محررًا كولومبيا، بيرو، وبوليفيا التي سميت باسمه تكريما له. وفي الأرجنتين، قاد خوسيه دي سان مارتن حركة التحرير في عام 1816، وأعلن الاستقلال عن إسبانيا، ونجح في مساعدة الثوار في تشيلي على هزيمة الجيش الإسباني، مما أسهم في إعلان استقلال تشيلي عام 1823.
مع مطلع العشرينيات من القرن التاسع عشر، ظهرت دول مستقلة جديدة في أمريكا اللاتينية، وكان من أبرزها البرازيل التي أعلنت استقلالها عام 1822 على يد بيدرو الأول، الوصي البرتغالي، الذي أعلن نفسه إمبراطورًا على البلاد. وفي عام 1825، اعترفت البرتغال رسميًا باستقلال البرازيل تحت ضغط بريطانيا.
في الوقت ذاته، كانت العديد من الدول اللاتينية الأخرى تخوض صراعات دموية من أجل الاستقلال، حيث بلغ عدد الدول المستقلة في المنطقة حوالي 18 دولة بحلول عام 1850، ومع ذلك لم تتحقق الاستقلالية التامة في بعض الأماكن مثل بورتو ريكو، التي ما زالت مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية، وغويانا الفرنسية التي ظلت مقاطعة فرنسية حتى يومنا هذا.
وفي البرازيل، وعلى الرغم من حصول البلاد على استقلالها، فإنها ظلت تعاني من الصراعات الداخلية، حيث حاولت الدول اللاتينية توجيه نظمها السياسية نحو نماذج جمهورية إما ليبرالية أو اشتراكية، مما تسبب في العديد من الصراعات بين القوى السياسية المختلفة في المنطقة. كما أن بعض المناطق في أمريكا اللاتينية، مثل جزر الأنتيل الهولندية، بورتو ريكو، وغويانا الفرنسية، بقيت تحت الهيمنة الاستعمارية بشكل أو بآخر، ما يعكس التحديات المستمرة التي تواجه دول المنطقة في سعيها لتحقيق استقلال حقيقي ونهائي.
إن مسار التحرر في أمريكا اللاتينية يمثل رحلة معقدة نحو بناء هوية مستقلة، ويمثل انعكاسًا لنضال طويل الأمد في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا تزال هذه التجارب المستمرة تشكل أساسًا للتحديات التي تواجه القارة في سعيها نحو ترسيخ قيم الاستقلال والتنمية المستدامة..