اللاهوت السياسي عند كارل شميت

تحرير : عبد الواحد حرايتي

يقول كارل شميث:”إن مفاهيم النظرية  الحديثة للدولة كلها ذات الدلالة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة”[1].وبهذا حسب اعتقاده أن مفاهيم الدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة ،أي أخذت شكلا جديدا بعد تطورها المفاهيمي والجينيالوجي ،فالدولة الدستورية الحديثة كفكرة ظهرت مرادفة لنفس السياق التداولي لكلمة “الربوبية”حيث قام اللاهوت بطرد المعجزة ، ومن خلالها ثم رفض تدخل الحاكم السيادي في تغيير القوانين الصالحة، وهذا المبدأ أسست له فلسفة الأنوار ، لهذا برز تيار المحافظين الذين يقدمون الدعم للسيادة الشخصية للملك أيديولوجيا، وفي هذه الأثناء ولحظة التحول الفكري ثم استحضار استعارات مشابهة من حقل اللاهوت الإيماني ،ونجد من بين هؤلاء المفكرين بعض الفلاسفة الكاثوليك اللذين كانوا ضد الثورة نذكر من بينهم على سبيل المثال :(بونالد ودوميستير و دونسو كورتيز) ،بحيث نلمس لديهم هذه التجربة في نقل اللاهوت إلى قوانين أو تشريعات ،بالتالي الحفاظ على نفس حمولة المعنى اللاهوتية لمعنى السيادة التي ألبست في سياق الربوبية ،فمثلا نجد علم لاهوت طبيعي مباشرة ، نجد في الجهة الأخرى ، علم تشريع طبيعي ،الحقوق الطبيعية أو القوانين الطبيعية ، يقول “لايبنيز” شارحا هذه المفارقة المدهشة :”لقد نقلنا بجدارة أنموذج قسمنا من اللاهوت إلى علم التشريع ،لان التشابه بين هذين التخصصين أمر يثير الدهشة”[2]. بمثل هذه المفارقة يؤكد “أدولف منزل” على أن علم الاجتماع اخذ بدوره القيام بوظائف كان يقوم بها القانون الطبيعي في القرنين 17و18. وخصوصا المطالبة بالعدالة وإطلاق تركيبات فلسفية ،فمثلا نلاحظ أن القانون العام يتدخل في جميع مناحي الحياة ،وكذلك مفهوم الدولة فهي حاضرة في كل مكان وزمان ونفس التعريف نجده عند “فوكو””بان السلطة حاضرة في كل مكان وزمان “[3]..وهنا نلاحظ كيف التصق مفهوم المعجزة أو القوة الخارقة بمفهوم الدولة،فهي تدين من تشاء بما تشاء في الوقت الذي تشاء ،وتعفو وتصفح، إنها تلعب دور شخص مراقب لكنه غير مرئي ،وبهذا تصبح القوانين الوضعية خاصة “القانون “مشتقة لغويا وتنظيريا من اللاهوت.انه يشبه لحظة تاريخية تماثل القانون الملكي في نظرية الحق الإلهي الذي طابق الله مع الملك. بل وتتجاوز ذلك عندما تتم مطابقة السيطرة المطلقة للدولة بتحويلها إلى شخص مجرد ومتنكر، بالنسبة إلي “برويس” يمثل هذا الأمر تماهيا وتنكرا قانونيا مع نظرية الحق الإلهي ،لكن مع استبدال الخيال الديني بالخيال القانوني ،لكن المعبود واحد، ويتجلى بالنسبة “لكارل شميث”  في قوله:”ان النظرية العضوية للدولة هي بالضبط لاهوت”[4].وبالتالي تصبح الشخصية القانونية والمعنوية أو المجردة للدولة تمثل:”وتذكر بعقيدة الثالوث”[5].فالبنسبة لمفهوم الدولة السوسيولوجي والتشريعي والذي يتقاطع مع الكانطية الجديدة ونتائج الديمقراطية ،بل حتى منظر الليبرالية” جون ستيوارت ميل” كان يشدد على ضرورة الموضوعية وعدم ترك الاعتباطية والصدفة في القوانين عندما يذهب إلى نقد قوانين المادة عند “هيوم”و “كانط” إلى نظرية الدولة وقد تجلى هذا الأمر جليا في فكرة المادة والسيادة والتشابه الكبير بينهما مع الفكر “السكولائي” أو المدرسي ،وكأننا أمام تفسير روحاني للمادة ومحاولة تغيير الظواهر الروحية بطريقة مادية علمية، فيقومان بتحويل هذا التناقض إلى العدم عن طريق إلغاء بعضهما البعض ،وهذا ما جعل “انجلز” يسخر من عقيدة “كالفن” اللاعقلانية وتحولها إلى رأسمالية قابلة للقياس العلمي، بل هناك إيحاء آخر بتداخل اللاهوتي مع البشري فمثلا مفهوم السيادة في القرن 17 خاصة في النظام الملكي فهو انعكاس أفقي للمفهوم الديكارتي ل”الله”.وهنا قامت عملية المماثلة بين المفهوم الغيبي وبين تجسيده البشري لكن بعقلانية القرن 17 وأيضا بنزعة إنسانية ، فقد كان النظام الملكي في هذه الحقبة هو النموذج المهيمن والمرتجى من العقلانية الديكارتية ، ليحل محله نموذج جديد هو الديمقراطية ،يقول “ادوارد كيرد”:”يجب تقليد مراسيم الالوهة الثابتة”[6].بالنسبة لهذه الحقبة التي ظهرت فيها السوسيولوجيا ومحاولة دراسة الظواهر البشرية كأشياء، ما هي في الحقيقة سوى تنزيل النموذج الإلهي بقوانينه الصارمة إلى المجتمع الإنساني الفوضوي وفي هذا السياق تتحول العقلانية إلى محاكاة لمراسيم الالوهة أو اعتماد قوانين الطبيعة التي هي نفسها قوانين إلهية ، وأكيد أنها ستتحول إلى قوانين للدولة. والذي أوضح بشكل لا لبس فيه هذا التداخل بين المفاهيم اللاهوتية مع العالم البشري ،خصوصا على مستوى مفهوم السيادة عندما يقول “بوتمي boutmy”:”إن روسو يطبق على الحاكم السيد الفكرة التي يحملها الفلاسفة عن الله ،قد يفعل أي شيء يشاؤه لكنه قد لا يشاء الشر”[7].وقد أشار أيضا “شميث” إلى أن في القرن 17 يتماها الملك مع الله، وله حكومة ومستشارين وجند انه في النهاية وبطريقة غير واعية يتماها مع دور الإله في صورة بشرية ،يمكننا أن نستنتج أن هناك خيط ناظم يمر عبر المفاهيم الغيبية والسياسية والاجتماعية التي تعتبر الحاكم المهندس الوحيد و الواحد في بناء الدولة والمدينة، وفي نفس السياق فأفضل دستور هو الذي يضعه مشرع واحد ،وحكيم ،وهذا ما يذهب إليه أبو العقلانية “ديكارت “في إحدى رسائله إلى “ميرسين” يقول:”إن الله الذي انشأ هذه القوانين في الطبيعة تماما كما يضع الملك القوانين في مملكته”[8].ويدعونا شميث للوقوف على اللامفكر فيه عند “هوبز” إبان القرنين 17و18 والتأمل في فكرة الحاكم السيد،الذي جعله “هوبز”يشبه “اللفياثان” أو التنين التوراتي ،فقد ربطها مباشرة مع الأسطورة ،ومعلوم أن “هوبز”ينتمي إلى الفلسفة الطبيعية وتقليصه للفرد إلى ذرة،بل حتى اسم المهندس الأعظم للدولة والعالم هو المشرع والذي هو نفسه الخالق ،يقول “اتجر” Atger”:”يطور الأمير الخصائص الكامنة كلها في الدولة من خلال نوع من الخلق المستمر ،فالأمير هو الإله الديكارتي المنقول إلى العالم السياسي”[9].وبهذا تحول المهندس إلى صانع للآلة التي تدير نفسها بنفسها ،مما جعل مفهوم الإرادة الحرة يخلخل من جديد ،وهنا يعاد النظر في ما ورائية “لايبنيز”و”مالبرانش”وبهذا تصبح الإرادة العامة عند “روسو”متطابقة مع إرادة الحاكم السيادي ، لكن عندما يصبح الشعب هو صاحب السيادة:”رغبة الأمة تبقى دائما هي القانون الأسمى”.وبهذا سيتم تحول على مستوى حضور مفهوم “الله”فعندما كان يمثله الحاكم وصاحب السيادة ،بدا في الديمقراطيات يمثله صوت الشعب ،وهذا ما جسده انتصار “جفرسون”في عام 1801.وعندما تحدث “طوكفيل” عن الديمقراطية الأمريكية ووصفها بان الناس يحومون فوق حياة الدولة ،مثلما يفعل الله فوق العالم .بل حتى “كلسن” كقانوني عندما اعتبر الديمقراطية علمانية ونسبية ،فهذا المفهوم يتماشى مع اللاهوت السياسي للقرن 19.هذا اللاهوت السياسي الذي أسسه “Proudhon””برودون” وبتأثير واضح من “اوغست كونت” و”باكونين”والسبب من وراء هذا العداء سببه الموقف المحافظ للكنيسة المسيحية ،وتحالف العرش والكنيسة ،نعم إنها فلسفة “المحايثة”التي ترعرعت في فلسفة “هيجل”التي جعلت القانون والدولة يظهران خارج الحضور الموضوعي ،لكن عند اليساريين الهيجليين ظهر “الإلحاد” .وقد كانوا أكثر عنفا من “برودون” عندما طالبو بضرورة استبدال الله بالإنسان ،وهذا ما استشعره “ماركس”و “انجلز” وعبر عنه هذا الأخير بقوله:”إن جوهر الدولة ،كما جوهر الدين ،هو خوف البشرية من نفسها “[10].وهذا ما يؤكده تاريخ الأفكار السياسية عندما يقدم لحظتين متميزتين :

_ إلغاء المفاهيم التوحيدية .

_ تشكيل مفهوم الشرعية من جديد .

وهنا تكمن إشكالية كبيرة ،فمنذ 1884 بدأت نظرية القانون العام ،ويمكن تلخيص هذه النظرية في السلطة التأسيسية للشعب ،وبهذا حسب “كارل شميث”،حلت فكرة الديمقراطية والشرعية مكان فكرة الملكية ،بمعنى تغير مفهوم الشرعية ،ولهذا وصل “هوبز”إلى نوع من الديكتاتورية في تصوره ،وذلك من جراء تغيير مفهوم الشرعية .

[1]كارل شميث: اللاهوت السياسي ،ترجمة رانية الساحلي و ياسر الصاروط ، ص:49

[2]كارل شميث:نفس المرجع ، ص: 50

[3]ميشيل فوكو:نظام الخطاب ،ترجمة عبد السلام بن عبد العالي ،الفكر العربي المعاصر .العدد33  سنة 1985،ص:17

[4]كارل شميث:نفس المرجع ،ص52

[5]كارل شميث:نفس المرجع ، ص:52

[6]كارل شميث:نفس المرجع، ص:57

[7]كارل شميث:نفس المرجع،ص:58

[8][8] كارل شميث:نفس المرجع،:ص:58

[9] كارل شميث:نفس المرجع،ص:58

[10] كارل شميث:نفس المرجع،ص:61

شاهد أيضاً

ديكارلو: الانقسامات السياسية تهدد وحدة ليبيا واستقرارها

تحرير: أفريكا أي حذرت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، روزماري ديكارلو …