تحرير:عبد الواحد حرايتي
من خلال المقالات السابقة، لا يمكننا الحديث عن النظرية السياسية الرابعة، دون الحديث عن المشروع الاوراسي العالمي، ولكي نفهم سيرورته التاريخية، لا بد من العودة إلى لحظة ولادة المفهوم “اوراسيا” الذي يتكون من شقين لغوين، أوروبا واسيا ليصبح “اوراسيا”. لكن ظهور الحركة الاوراسية الكلاسيكية كفلسفة سياسية، أسس لها الكونت “نيكولاي تروبسكوي” الذي ينتمي إلى أسرة روسية عريقة ورثت لقب الإمارة، وكان عالم لغة وأول من ادخل التحليل البنيوي إلى المنطق الفكري الاوراسي، ثم ليضاف إلى الاوراسية الكلاسيكية والتفكير الأنثروبولوجي البنيوي، خاصة اذا علمنا ان الاب الروحي للأنثروبولوجيا البنيوية” كلود ليفي سترواس” درس عند “جاكبسون” الذي كان بدوره زميلا “لتربسكوي”.ومن هنا جاءت فكرة تعدد واختلاف المجتمعات ثقافيا وعقائديا وعرقيا كما تختلف البنية الدلالية للغة، وهذا منشا الفلسفة الأوروبية الاسيوية.
ثم أضاف الاوراسيون مفهوم التاويل مع الارتباط بالخصوصية، من خلال إعادة قراءة التاريخ الروسي والجيوبوليتيك ،وعلم الاجتماع والعلاقات الدولية والعلوم السياسية ،لكن هدفهم هو الدفاع عن فرادة الحضارة والثقافة الروسية، من خلال تأسيس رؤية ونظرة جديدة للعالم ،تعتمد على تاويل خاص للزمان والمكان والتاريخ والطبيعة والقيم والأهداف، كما يعترف الاوراسيون الجدد(الحركة الاوراسية الدولية) بوجود حضارات أخرى يمكنها أن تتحول إلى أقطاب هي :الحضارة الفارسية ونظامها ولاية الفقيه، فهي نموذج معتمد ويجب تعميمه حسب اعتقادهم، ثم الحضارة الإفريقية وحضارة أمريكا اللاتينية، الغاية من كل هذه التأويلات هي تأسيس فلسفة سياسية تؤمن بتعدد الأقطاب والحضارات وتتبنى معاداة الليبرالية والحداثة، معتبرين أنفسهم مخلصين للحضارة الروسية والثقافة (السلافية)التي تلتقي فيها روسيا وتركيا وإيران،لهذا تمجد الحركة الاوراسية الكلاسيكية والاوراسية الجديدة الدولية تراث “جنكيزخان”،وقد ألف الأمير “نيكولاي تروبسكوي” كتابا تحت عنوان “تراث جنكيزخان”.ومن هذا المبدأ يرفض الاوراسيون الجدد فكرة عالمية الحضارة الليبرالية الغربية، سواء الديمقراطية أو الاشتراكية أو الاشتراكية الوطنية. فكان جوابهم “لا” للتقدم، كما يرسمه الليبراليون، رافضين التوجه النفعي المادي، وأيضا “لا” لقرصنة الأفكار، بل نعم لقوة الأفكار، ثم “لا” للديمقراطية وإنما نعم للملكية الشعبية، والاهم في كل هذا هو رفضهم للحرية السطحية، ونادوا بالحرية الروحية واكدو على المسؤولية الاجتماعية والأسرية، واستخدموا “البلشفية” كغطاء سياسي، وانتقدوا الماركسية واعتبروها شكلا غربيا ومنحرفا، كما اعتقد وان ثورة 1917 خيانة للحضارة الاوراسية. التي تتشبث بالإيمان المسيحي الأرثوذكسي، وينتظرون عودة الملكية كنظام يعبر عن خصوصيتهم.
من هذه البوتقة الفكرية والسياسية والتاريخية ولدت الحركة الاوراسية الجديدة لمؤسسها “الكسندر دوجين” بعد أن أضاف النقد الاوراسي للحداثة وبعض أفكار اليمين الأوروبي الجديد الذي يمثله “الان دوبينوا”،ووظف “الكسندر دوجين” بعض أفكار” ريني غينوا”، لكنه أضاف النظرة الجيوبوليتيكية للاوراسية العالمية من خلال توظيف العلوم التالية:(النزعة التقليدية، الجيوبوليتيك،فلسفة كارل شميت، مارتن هيدجر، ثورة المحافظين، البنيوية، الانتروبولوجيا…)،ليتوج “الكسندر دوجين” هذا المسار بعقد المؤتمر التأسيسي للحزب السياسي “اوراسيا” في 30 ماي2002 بدير القديس دانيال ،بموسكو وانتخب “الكسندر دوجين” زعيما للحزب ،لكن أدرك الاوراسيون أن طموحهم ليس هو روسيا، فتحولوا الى حركة دولية(الحركة الاوراسية العالمية) في نوفمبر 2003 انعقد المؤتمر الدولي للحركة الاوراسية الجديدة بدار الصحافة بموسكو، بعدها تم فتح مكاتب في جميع القارات تحت قيادة “الكسندر دوجين”.
الحركة الاوراسية الدولية في إفريقيا بدأت تتغلغل في منطقة الساحل الإفريقي (تمتد من اريتريا والسودان على البحر الأحمر حتى موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي) بعد أن كان خاضعا للنفوذ الفرنسي،أصبحت لروسيا أهداف متعددة تصنف استراتيجيا ضمن الأهداف العسكرية والاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، ضمن قراءة جيوبوليتيكية أسس لها “الكسندر دوجين” في كتابه “جيوبوليتيكا ما بعد الحداثة” كمواجهة ميدانية مفتوحة مع الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية و حلف الناتو).
تتجلى أهمية الساحل في الموقع الجغرافي الاستراتيجي،والموارد الطبيعية الغنية والنادرة(اليورانيوم والذهب)،وتقديم الدعم للحكومات الإفريقية التي تعاني هشاشة الحكامة لغياب الديموقراطية وحقوق الأقليات والاثنيات، لكن هذا التعاون لايتم مباشرة ،ولكن من خلال شركات الامن الخاص(فاغنر)المتواجدة حاليا بمالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينافاسو والنيجر وتشاد وتعاون امني وجامعي مع موريتانيا(رفع نسبة عدد الطلبة المتوجهين للدراسة في روسيا)،لكن تعتبر مالي هي النموذج الافريقي في التعاون العسكري والسياسي والأمني واللوجيستيكي مع روسيا، بينما تعهد الرئيس الروسي “بوتين” ببناء محطة نووية للإنتاج طاقة ببوركينافاسو،مع توفير خدمة التداريب العسكرية والاستخباراتية وتزويدهم بالأسلحة، هنا تتغلغل روسيا كشريك موثوق به او كما تقدم نفسها للدول الافريقية وتحريرهم من الاستعمار الجديد، وتساعدهم في تحويلهم الى قطب ضمن الحضارة الافريقية، امام المنافسة الشرسة مع الصين على الموارد الطبيعية، يظهر التعاون المتعدد الأطراف بين الصين وروسيا لتفادي قانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في افريقيا الذي أصدرته الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2022.نلاحظ أن روسيا تلجا إلى توظيف ديبلوماسية القمح والتكنولوجيا النووية كدبلوماسية وازنة من خلال إبرام هكذا معاهدات مع النيجر ومالي، مع حضور شركات روسية هدفها تطوير الفلاحة والزراعة من اجل الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وعلى مستوى التنقيب على “اليورانيوم “تحضر شركة”روسيا جيولوجيا”، اما على مستوى التعاون الروسي العربي فتحضر الجزائر ومصر على مستوى التعاون العسكري والمعرفي والتكنولوجي والطاقي والتجاري، مع تقديم التكوين المستمر للأطر العليا لهذه الدول، بالنسبة اليهم روسيا شريك موثوق، هذه المعاهدات ساهمت في تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها وضعت القانون الدولي والنظام العالمي أمام نظرية عالم متعدد الأقطاب واقعيا، فمنطقة الساحل أصبحت منطقة صراع عالمي دو طبيعة جيوبوليتيكية، ستبدأ توظف فيها مختلف أشكال الصراع الديني والطائفي والعرقي والحضاري.(سنعود الى هذا الموضوع في مقال اخر).