الاتحاد الإفريقي بين رهانات الحياد وتعقيدات الصراعات العرقية في القارة

تحرير : خديجة منصور

تعد النزاعات العرقية والقبلية أحد التحديات الأكثر تعقيدا في القارة الإفريقية، إذ تتجاوز كونها خلافات اجتماعية لتصبح عوامل حاسمة في زعزعة استقرار الدول وإعاقة مسارات التنمية. فالتركيبة الإثنية المتنوعة، التي كان من الممكن أن تكون عامل ثراء ثقافي واجتماعي، تحولت في كثير من الأحيان إلى مصدر للانقسامات العميقة التي تؤجج النزاعات المسلحة، ما يجعل القارة عرضة لدوامات مستمرة من الصراعات التي تضعف الدول وتفتح المجال أمام التدخلات الخارجية، وتعد جمهورية الكونغو الديمقراطية نموذجا جليا لهذه الظاهرة، حيث يشكل الصراع القائم هناك مثالًا على تعقيد العلاقة بين العرقية والسياسة، وامتداد تأثيرها على اختلال التوازنات الإقليمية والدولية.

الصراع في الكونغو الديمقراطية لم يكن يوما مجرد مواجهة بين الدولة والجماعات المسلحة، بل هو امتداد لسلسلة طويلة من التوترات العرقية والمصالح السياسية التي تعيد إنتاج العنف بصورة دائمة، فحركة “23 مارس” (M23)، التي تتصدر مشهد النزاع في شرق البلاد، ليست مجرد فصيل مسلح يطمح إلى السيطرة على الأراضي، بل هي كيان يعكس استغلال العرقية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، إذ تعتمد على خطاب المظلومية العرقية الإثنية لتبرير أعمالها العسكرية، فيما تستغل في الوقت ذاته الثروات المعدنية الهائلة في المنطقة لتعزيز نفوذها، اتهامات الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي لسلفه جوزيف كابيلا خلال مؤتمر ميونخ لأمن بدعم هذه الجماعات تكشف عن البعد السياسي العميق لهذا الصراع، حيث تتداخل المصالح الداخلية والخارجية في مشهد يزيده تعقيدا تشابك الولاءات العرقية مع الحسابات الاستراتيجية للقوى الإقليمية.

الامتداد الإقليمي للأزمة يظهر بشكل واضح في العلاقة المتوترة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، حيث تتهم كينشاسا جارتها بدعم الجماعات المسلحة، مما يضيف بُعدًا جديدًا للصراع ويؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار، فالصراعات الإثنية لم تعد محصورة في الحدود الوطنية، بل أصبحت تمتد إلى تفاعلات إقليمية تجعل من حلها مسألة شديدة الصعوبة، خاصة في ظل المصالح المتضاربة للدول المجاورة، هذه الصراعات لا يدفع ثمنها السياسيون والقادة العسكريون، بل المدنيون الذين يجدون أنفسهم ضحايا للنزوح الجماعي، وتدمير البنية التحتية، والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، في مشهد يعيد نفسه بشكل مأساوي في أكثر من منطقة إفريقية.

التعقيد الذي يحيط بهذه النزاعات يفرض على الدول الإفريقية إعادة النظر في سياساتها الداخلية، إذ إن الحلول العسكرية أثبتت محدوديتها في معالجة جذور الصراع، فغياب استراتيجية شاملة للمصالحة الوطنية، والاعتماد على القوة كوسيلة وحيدة لضبط الأمن، يؤدي إلى إعادة إنتاج العنف في دورات متكررة، حيث تعود الجماعات المسلحة إلى الواجهة كلما سنحت لها الفرصة، فبناء دولة مستقرة لا يمكن أن يتحقق دون معالجة الأسس التي تغذي الصراعات الإثنية، من خلال إعادة صياغة مفهوم المواطنة بحيث يكون شاملاً وعابرا للعرقيات، مع تبني إصلاحات اجتماعية واقتصادية تقلل من الفجوات التي تؤجج التوترات.

الاتحاد الإفريقي، الذي يفترض أن يكون الضامن الأول للاستقرار في القارة، يواجه تحديات جمة في التعامل مع هذه النزاعات، إذ غالبا ما يجد نفسه مقيدا بالمصالح السياسية للدول الأعضاء، ما يحد من قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة في القضايا الأكثر حساسية، الرئيس الجديد للاتحاد الافريقي علي محمود يوسف، أمام اختبار حقيقي في كيفية إدارة الملفات المعقدة، خاصة فيما يتعلق بالصراعات ذات البعد العرقي مثل الوضع في الكونغو الديمقراطية، إلى جانب الأزمات الأخرى في السودان ومنطقة الساحل…، فنجاح الاتحاد الإفريقي في تحقيق مصداقيته كمنظمة إقليمية فاعلة مرهون بقدرته على تجاوز الحسابات الضيقة لبعض القوى المؤثرة، واعتماد نهج قائم على الحياد والواقعية السياسية في معالجة الأزمات.

القارة الإفريقية أمام مفترق طرق، فإما أن تتمكن من تجاوز الصراعات العرقية الإثنية والسياسية عبر استراتيجيات شاملة تضمن التماسك الداخلي والاستقرار الإقليمي، أو أن تبقى رهينة لدوامة النزاعات التي تعرقل أي آفاق للتنمية، تجاوز هذه العقبات يتطلب إرادة سياسية حقيقية تتجاوز الحلول المؤقتة، وتؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها الاستقرار مبنيا على العدالة والمساواة بين مختلف المكونات المجتمعية. وفي ظل استمرار التوترات في دول عدة يبقى التساؤل مطروحا: هل يستطيع الاتحاد الإفريقي، في ضوء معطياته الحالية، أن يكون فاعلًا حقيقيًا في تحقيق السلام، أم أنه سيظل عاجزًا عن كسر الحلقة المفرغة للصراعات التي تعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل؟

شاهد أيضاً

منظمات حقوقية تطالب سلطات الساحل بوقف استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان

تحرير : عمر قادر طالبت منظمات حقوقية دولية السلطات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، …