آخر الأخبار

الرجعية السياسية في فكر هيجل “ج1”

تحرير : عبد الواحد حرايتي

يقول “هيجل ” :”إن قراءة الصحف هي لون من ألوان صلاة الصبح .6″،معلوم أن التفكير السياسي ينمو ويزدهر في حالة الغليان السياسي والأزمات السياسية الحادة ، والأحداث التاريخية الحاسمة لان ذلك كله يجبر الفيلسوف على أن يتخذ موقفا سياسيا معينا وفي بعض الأحيان رغما عنه ، فعصر “هيجل ” هو عصر أحداث جسيمة على مستوى الأحداث السياسية بأوروبا تتميز بالثورة الفرنسية وما تلاها فقد كان في القرن 19 عند سقوط الباستيل ،وفي الخامسة والأربعين عندما وقعت معركة و”اترلو” ، ومات بعد عام واحد من ثورة يوليو ، وهكذا كان شاهد عيان على تعويض النظام القديم ، وفترة عودة الملكية ، وسقوط اسرة “البربون” مرة أخرى ، وتأسيس الجمهورية وسقوطها في عهد الإرهاب ، وظهور نابليون ، وبلوغه الذروة ثم سقوطه وانهيار بروسيا وإعادة تكوينها وموت الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية . كتب “هيجل” إلى “شلنج” عن الأوضاع في 17 ابريل1795 يقول : ” ….يتم كل عشر سنوات تجديد مجلس السيادة ، حيث يخرج منه حوالي 90 عضوا ، وكيف يحدث ذلك كله من الناحية الإنسانية . ان جميع الدسائس ، ومحاباة الأقارب والمحسوبية التي تحدث في بلاط الأمراء في ألمانيا ، لا تعتبر شيئا أمام ما يحدث هنا مما لا استطيع أن أصفه لك ، فالأب يسند المنصب إلى ابنه ، أو إلى زوج ابنته الذي استطاع أن يحقق أفضل زواج ولا بد لمن يريد أن يعرف هذا الدستور الارستقراطي أن يقضي هنا شتاء كهذا .”7

هذا ما شاهده “هيجل” في واقع المجتمع السويسري مع انه كان يطمح الى بحث قصير قام به “هيجل” يعرض فيه المثل الأعلى الذي يسعى الى تحقيقه بوصفه موجودا عاقلا من ناحية وكائنا اجتماعيا من ناحية أخرى ، كما حاول ان يبرهن على ان هذا المثل الأعلى ليس يوتوبيا او حلما ، مادام الإغريق قد حققوه بالفعل .

لهذا انكب “هيجل ” على دراسة المجتمع السويسري و الوقوف على أشكال الفساد التي عرفها بغية الوصول إلى حلول وطرق إصلاحه ، وكانت النتيجة أول عمل سياسي “لهيجل” الشاب ، ومن خلاله عرف أهمية “العمل ” و مكانة الصناعة والإنتاج في الحياة البشرية ، ولهذا يعتبر “هيجل” أول فيلسوف أدرك أهمية مجال الاقتصاد في الحياة الدينية والسياسية والثقافية ، وهذا ما تجلى في فلسفته السياسية في كتابه “أصول فلسفة الحق ” الذي كشف فيه عن ترابط ما يسميه بالمجتمع المدني والحياة السياسية ، ومن اجل إيضاح أكثر للوضعية التاريخية ونضيف الأراضي المنخفضة ، كانت تحت حكم أسرة “صوفاي” .

وتتمتع بالحريات الواسعة، لكنها وقعت سنة 1542 تحت حكم مدينة “بيرن” وحيث تسيطر عليها حكومة ارستقراطية أو تيوقراطية ظلت تحكم على نحو استبدادي حتى عام 1798 , ويصف هيجل هذه الأوضاع قائلا: ” لن تجد في أي بلد من بلدان العالم، بقدر ما اعلم، بلدا في هذا الحجم، يزخر بهذا العدد من الجرائم، ألوان الشنق، وأدوات التعذيب وقطع الرأس أو ضرب العنق، والإحراق بالنار على نحو ما تجد في مقاطعة “بيرن”. وأمام هذا الاستبداد والفساد والظلم واللاإنسانية الذي وصلت اليه حكومة “بيرن” الاستبدادية ، وقرر “هيجل” فضح الفساد وهو الفيلسوف الشاب ابن 23  ربيعا ، المفعم بالأفكار العقلية التي بذرها عصر الأنوار في التربة الألمانية ، والثقافة الإنسانية بصفة عامة ، المتحمس للثورة الفرنسية التي أعلنت حقوق الإنسان ، فقرر “هيجل ” فضح هذه الحكومة الفاسدة وتعريتها أمام الشعب الألماني ، ووجد ضالته في كتاب “كارت” وعكف على ترجمته من الفرنسية إلى الألمانية ، ونشره سنة 1789 تحت عنوان :”رسائل حميمة حول العلاقات الدستورية السابقة للأراضي المنخفضة بمدينة “بيرن”: كشف كامل للحكومة الاوليجارشية السابقة في “بيرن” .

وينطلق مؤلف الكتاب المحامي “كارت” من أن الحكومة السويسرية في “بيرن” اوليكارشية  طاغية متعسفة تقوم باعتداءات متكررة على حريات الناس ، وخرقا للمواثيق القانونية جاوز كل حد ، فوجه أربع اتهامات :

1 الاتهام الأول :يذهب الى ان مجلس الأراضي المنخفضة لم يستدع للاجتماع على الاطلاق ، بل اهمل حتى سقط حقه بمضي الوقت ، هكذا اختفت السلطة الوحيدة صاحبة الحق في سن التشريعات .

2 الاتهام الثاني: يدور حول التفرقة التي يستشعرها المواطنون في الأراضي المنخفضة بينهم وبين المواطنين في مدينة “برن” . فهناك ظلم صارخ وانتهاك فاضح لحقوقهم المدنية والسياسية .

3 الاتهام الثالث : كل الإجراءات القانونية المختلفة ، والتشريعات العادية والمألوفة التي تصدرها الحكومة ، على نحو يجعل الميزات كلها لصالح الحكومة وعملائها .

4 إدانة كل ما تقوم به الحكومة من إجراءات بوليسية لتعقب المواطنين الشرفاء ، خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية واضطهاد ومراقبة من يتعاطف مع الثورة الفرنسية .

وبهذا الكتاب أخفى “هيجل” آراءه الخاصة حول الوضع السياسي ، والذي أشاد بالنظام الدستوري ، وتمجيد حكم القانون ، وإدانة الامتيازات الجائرة لسلطان “بيرن” وسلوكها التعسفي . من خلال هذه الاتهامات نستنتج أن “هيجل” يريد أن يبرز بان الرجعية والقهر وكبث الشعوب واضطهاد المواطنين الشرفاء لا تدوم طويلا ولا تحقق شيئا. على المدى البعيد مهما يكن من أمر الانتصارات الزائفة، صحيح أن الرجعية السياسية في “بيرن” استطاعت ان تقمع الانتفاضة الشعبية التي أشعلها التعاطف الطبيعي مع الثورة الفرنسية سنة 1791 وأعادت الناس إلى الطاعة والخنوع، وان يعود الهدوء ويسود السلام للمقاطعة سنة 1792، واستعاد الحكم الاوليغارشي  السيطرة ، لكنه حسب “هيجل” انتصارا زائفا لان حركة التاريخ دائما تقف مع الشعوب . وبهذا ينتقد “هيجل” الأوضاع السياسية لما يجده فيها من انعدام ” لقانون العقوبات ” فليس هناك “تشريع مكتوب ” يعاقب بناءا عليه من يرتكب الجريمة ، وإنما تستحوذ الحكومة على السلطة العليا في الدولة ، وتقوم بكل من الوظيفة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، فهي تقيم الدعوى وتحكم فيها وتنفذ الحكم في آن معا ، ” فهيجل” لم يصرح بأنه يطالب بفصل السلطات كما  فعل “لوك” ، ولكنه على الأقل يعارض ” أن تكون العدالة ومعاقبة المجرمين والجناة في يد الحكومة تماما “. وينتقد “هيجل ” الضرائب وربطها بالمواطنة، فليست كمية الضرائب هي التي تجعل الناس أحرارا، لكن السؤال الهام، إنما يدور عما إذا كانت الضرائب المفروضة عليهم قد فرضتها سلطة خارجية أم أنهم هم أنفسهم الذين فرضوا هذه الضرائب، إن القانون الذي يضعه الناس هو الذي يجعلهم أحرارا ومن هنا ذهب “هيجل” إلى أن القوانين شرط الحرية، يقول “هيجل”:” بوصفي محكوما بالقانون فانا محكوم بالكلي ، يعني الكلي الذي أسقطه أنا نفسي على العالم ، وأنا بالتالي محكوم عن طريق ذاتي ، فانا إذن حر .8″. وكل القوانين الجائرة والظالمة، ليست نتاجا للكلي وبالتالي فهي تجليات اللاحرية ، واعني العبودية حسب “هيجل” . ونشير الى ان الحرية عند “هيجل ” كما كانت عند “كانط” من قبل هي الاستقلال الذاتي ، وبالتالي فالعدالة التي يدافع عنها “هيجل” هي حق الشعب في أن يحكم نفسه ، بمعنى أن يضع قانون فرض الضرائب على نفسه ويلتزم به من خلال إرادته الحرة ، أما إذا أطاع شيئا مفروضا عليه من الخارج ولا يريده فهو ليس حرا . وبهذا تصبح الفلسفة السياسية عند “هيجل” مرادفة للعقلانية السياسية , فقياس النظم الاجتماعية إنما يتم على محك العقل وحده بغض النظر عن أي اعتبار آخر ، ولا توجد هناك عبادة للواقع ، بل هناك دعوة إلى التغيير ، كما اعتمد “هيجل ” على العقل وليس الأعراف أو التقاليد ، لهذا ينتقد ” هيجل ” “روسو” بقوله : ”  إن روسو لسوء الطالع ، نظرا إلى الإرادة في صورة محددة فقط ، بوصفها إرادة فردية ، ونظرا إلى الإرادة الكلية لا على أنها عنصر عقلي على نحو مطلق ، بل فقط كإرادة عامة ، تصدر عن هذه الإرادة الفردية كما تصدر عن إرادة واعية ، وكانت النتيجة انه رد وحدة الأفراد في الدولة إلى تعاقد ، ومن تم رده إلى شيء يقوم على إرادتهم التعسفية ، على رأيهم الظني ، ورضاهم الواضح الصادر عن الهوى ، وينتهي الاستنتاج المجرد إلى نتائج منطقية تدمر المبدأ المقدس الخالص الذي تقوم عليه الدولة ، كما تدمر جلالها وسلطتها المطلقة ” .

 

شاهد أيضاً

كاتب ياسين: المتمرد الذي دوّن الثورة وأسر القلوب

تحرير : هالة البصير لم يكن كاتب ياسين مجرد روائي أو شاعر، بل كان صوتا …