هيجل والدولة: الفلسفة السياسية بين الأخلاق والسيادة “ج2”

تحرير : عبد الواحد حرايتي

الدولة تتكوَّن من الأسرة والمجتمع المدني، حيث تبرز الأسرة عنصر الإرادة الكلية في الفكرة الأخلاقية، بينما يبرز المجتمع المدني عنصر الإرادة الجزئية فيها. أما الدولة، فهي تمثل عنصر التأليف بين الكلية والجزئية، إذ تتحقق فيها الإرادة الكلية عندما يتحقق الاتفاق التام بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. وتنبع أهمية الدولة عند “هيجل” من عدم استقرار المجتمع المدني، فالدولة هي مجموعة المؤسسات السياسية والقانونية والسيادية التي تصون سلامة المجتمع واستقراره داخليًا من خلال الدستور والقانون، ولها حق استخدام القوة من أجل ضبط حركة المجتمع. كما تتولى الدولة حماية الاستقلال والأمن والدفاع عنه ضد أي عدوان خارجي، بالإضافة إلى تنظيم استغلال الموارد الطبيعية وخدمة مصالح المجتمع وإدارة العلاقات مع الدول الأخرى.

يقول “هيجل”: “إن الغاية العقلية للإنسان أن يحيا في دولة، وإذا لم تكن ثمة دولة، فإن العقل يحتم في الحال تأسيسها.” فالنظم السياسية والاجتماعية وغيرها هي مجرد تشكلات مادية ونتاج منطقي للعقل الذي يؤثر في الأفكار المختلفة. ولهذا، قدَّم “هيجل” تصورًا مخالفًا للمجتمع المدني في غياب الدولة، حيث يرى أنه مجتمع تسوده الفرقة والصراع والتمزق، ويفتقد أي إحساس بالوحدة والغاية الأخلاقية، ولا يمكن أن يستقر أو يتوحد إلا بوجود الدولة.

إضافةً إلى إشرافها على تربية المواطنين وثقافتهم، تتحكم الدولة أيضًا في المجال الديني، فهي تمتلك السلطة المطلقة على أفرادها، وتمارس سلطتها المطلقة على المستوى الدولي، وتفرض سيادتها بكل الوسائل. ومن هنا، تصبح الحرب عند “هيجل” مشروعة لفرض سيادة الدولة. فبينما تترك مهام التعبئة الداخلية للمجتمع المدني، توجه الدولة المجتمع أخلاقيًا وروحيًا، مما يجعلها غاية في ذاتها. أو كما يقول “هيجل”: “تصبح الدولة مسيرة الله في العالم، بها يتحقق الخلود للروح.”

ويعتبر “هيجل” أن أفضل النظم السياسية هو الملكية الدستورية، حيث يتفق مع فلاسفة الليبرالية في هذا الشأن، لكنه يركز على طبقة الحكام الرسميين في تدعيم الدولة. ومع ذلك، يرفض النموذج البرلماني الإنجليزي لأنه يركز السلطة في يد أرستقراطية لا تمتلك جذورًا قومية. كما يرى أن الثورة الفرنسية لم تحقق مثاله المنشود.

الدستور عند هيجل

يعرف “هيجل” الدستور بأنه النسيج الداخلي للدولة وجانبها الكلي، حيث يُعَدّ مصدر القوانين ومنبعها. فالسلطة التشريعية تمثل هذا الجانب الكلي عبر سنّ القوانين، أما الجانب الجزئي، فهو تطبيق هذه القوانين على حالات خاصة، وهو ما يمثل السلطة التنفيذية. أما لحظة الفردية، فتتمثل في شخص الحاكم أو الملك. ويؤكد “هيجل” أن القانون هو أساس وجود الدولة وتماسكها، حتى تصبح مصدر السلطة التي تحدد حياة الفرد والمجتمع. وتتمثل غاية الدولة في تحقيق الحرية لأفرادها، مما يجعل المواطن عضوًا فاعلًا فيها، ولكن باعتباره شخصًا له غاية جزئية أنانية.

يرفض “هيجل” الفصل المطلق بين السلطات، حيث يرى أنه لا ينبغي أن تكون كل سلطة مستقلة عن الأخرى، بل يجب أن تكون جميعها مترابطة. يقول في هذا السياق: “علينا أن ننظر إلى هذه الأقسام كنظرة واحدة، وأن نرى أن لكل منها سلطة الكل بداخلها، فهي متحدة مع سلطة الكل.” ويشبه السلطات الثلاث بوظائف الحياة في الكائن الحي.

وقد حدد “هيجل” مهام السلطات على النحو التالي:

  • السلطة التشريعية: وظيفتها سن القوانين، أي وضع مبادئ عامة للدولة، وتطوير القوانين القائمة.
  • السلطة التنفيذية: تختص بتطبيق القوانين على الحالات الجزئية، وتتعاون مع السلطة التشريعية في تحديد المناصب والوظائف، بحيث يكون لكل مواطن الحق في شغل وظيفة تتناسب مع قدراته.
  • الملك أو الحاكم: يمثل لحظة الفردية، وهو وحدة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وله حق التصديق المطلق على القوانين وإصدار القرارات التي تضفي المشروعية على أعمال وزرائه. ويشترط “هيجل” أن تجسد قرارات الملك المبادئ العامة للدستور، وأن تأخذ في الاعتبار ارتباط القانون بحاجات المجتمع حتى يحقق المصلحة العامة.

يختتم “هيجل” تصوره للدولة من خلال قصة طريفة يرويها عن التربية السياسية، حيث سُئل أحد الفلاسفة الفيثاغوريين عن أفضل طريقة لتربية ابنه، فأجاب: “اجعله مواطنًا لدولة ذات قوانين صالحة.” وهذا يعكس رؤية “هيجل” للحرية، إذ يرى أنها لا يمكن أن توجد بلا قانون، فهي لا تتحقق على المستوى الغريزي، وإنما توجد عندما يتنازل الإنسان عن أنانيته وفرديته من أجل الانخراط في إطار الدولة المنظمة. وبناءً على ذلك، تتلخص الحرية عند “هيجل” في “فهم الضرورة”، حيث تصبح الحرية الحقيقية هي تلك التي تتجسد في إطار الدولة والقانون.

 

شاهد أيضاً

انتخابات كاف: تنافس محتدم على مقاعد فيفا في القاهرة

تحرير: أفريكا أي تستعد العاصمة المصرية القاهرة لاستضافة الجمعية العمومية غير العادية الـ14 للاتحاد الإفريقي …