تحرير : عبد الواحد حرايتي
معلوم أن السياقات الجيوبوليتيكية تشكل قاعدة أساسية في نشوء ونمو الصراع الدولي، فالحسابات الجيوسياسية مرتبطة بأداة السياسة التي تحتكم بدورها إلى المكان والزمان، هذه الرقعة الجغرافية تتصارع عليها طموحات الدول العظمى لتحويلها إلى رقعة شطرنج، عادة ما يعود الصراع المذهبي بالنفع على مصالح أحد الأطراف المتصارعة، لكن المتعصب للمذهب (كشخص مختل نفسياً) يتحول إلى أداة لخدمة هذه المصالح دون وعي منه، لأنه يعتقد أنه ينتمي إلى عالم خيالي ينتشي بالانتماء إليه. والحقيقة أنه غير موجود إلا في خياله المريض، بينما أفعاله واقعيا تخدم وتعود بالمنفعة على الدول المتصارعة جيوبوليتيكياً.
الصراع المذهبي والطائفي والعرقي أداة جيوسياسية تسخرها قوى لتحقيق مصالحها أو لإسقاط أنظمة، نقصد هنا التطرف بجميع أشكاله (العنيف، العقائدي، الطائفي، والعرقي)، حيث يختلف المتطرف عن المجرم الجنائي لكونه يدمج السياسة في معتقداته الدينية أو العرقية أو الطائفية. وهو فعل مرفوض أخلاقياً ودينياً وقانونياً وإنسانياً.
في هذا السياق، سنقف على نوع جديد من الصراع الجيوبوليتيكي الذي تعرفه منطقة الساحل الإفريقي، بديهي أن التطرف هو استمرار للحرب الخفية والسرية، وكل عملية تنتمي إلى التطرف الدولي ولكن كل مرة بوجه وغطاء أيديولوجي معين (غالباً ديني أو عرقي أو مذهبي). إذا كان الإنجليزي “هامفر” قد ساهم في تأسيس الحركة السلفية، ومواطنه “لورانس العرب” قد ساهم في خلق حركة قومية عربية، فإن أوروبا الأرثوذوكسية توجهت إلى صناعة المد الشيعي الذي يتبنى قضايا التحرر والكفاح المسلح. لكنه مذهب يغير الجغرافيا ويخلق الأزمات داخل الدول من خلال تشجيع الانفصال والحرب الطائفية.
نجحت إيران في اختراق الساحل الإفريقي والغرب الإفريقي الذي يضم السنغال غرباً، وتشاد شرقاً، وموريتانيا شمالاً، ونيجيريا جنوباً. هذه المنطقة المخترقة تضم أكثر من 17 دولة. قامت القوة الناعمة الإيرانية بنجاح بتحويل أكثر من 7 ملايين مسلم سني (كانوا يعتنقون سابقاً المذهب المالكي والتصوف السني بطريقة الجنيد السالك) إلى المذهب الاثني عشري، بعد الاصطدام مع المد السلفي الذي استقبله السكان المحليون بالرفض لكونه يتعارض مع الثقافة والتدين المحلي.
فشل المد السلفي وتهميش التدين المحلي في هذه البلدان، وانتشرت الفوضى والفقر، خاصة بعد نجاح الثورة الإيرانية 1979 وبروز مشروع الخميني الطامح في نشر الثورة واستغلال الموارد الطبيعية في الصناعة المحلية الإيرانية. استغلت إيران هذا الضعف في العديد من الدول الإفريقية مثل السنغال، غامبيا، مالي، سيراليون، بنين، نيجيريا، غانا، كوتيفوار، النيجر، تشاد، بوركينا فاسو، وليبيريا، من خلال المنظمات والمشاريع الاقتصادية الصغيرة والكبيرة، والمراكز الثقافية، والعمل السياسي والإعلامي.
هذا الاهتمام الإيراني بإفريقيا يظهر من خلال زيارات رفيعة المستوى قام بها الرؤساء الإيرانيون. إيران كدولة أوراسية تتبع خطوات روسيا، مدافعة عن تصور عالم متعدد الأقطاب، مستخدمة جيشاً من الخبراء والتجار والباحثين تجاوز عددهم 30,000 إيراني، مدعومين باللبنانيين التابعين لحزب الله اللبناني الشيعي. تم اتخاذ هذه الأنشطة كغطاء لنشر النفوذ والمشروع الإيراني تحت الأعمال الاقتصادية وتشجيع انتشار المذهب الشيعي في إفريقيا.
بلغ عدد الشيعة الإثني عشريين في نيجيريا وحدها 7 ملايين شخص، بينما تحول حوالي نصف مليون سني صوفي في السنغال إلى المذهب الشيعي، وتبعهم في ذلك غانا، بنين، والنيجر. استغلت إيران ظروف الفقر والجهل والمجاعة والتهميش فبدأت في بناء الجامعات والمستشفيات والمدارس والحسينيات بهدف تشجيع أبناء السنة على التشيع.
لقبها الأفارقة بـ “إيران دولة الإسلام ومشعل النور في القارة الإفريقية”. هذا الصراع الجيوبوليتيكي العالمي مكن إيران من تحقيق مشروعها بمباركة دول عظمى تتطلع إلى بناء عالم متعدد الأقطاب. إيران تعتبر ممثلاً لقطب الإسلام الشيعي، لذا تتوسع في إفريقيا والساحل. النموذج الشيعي أصبح يوظف في الصراع العالمي كأداة لإعادة رسم خريطة القارة الإفريقية، مما قد يثير مستقبلاً بعض النزاعات المذهبية، لكن بوجوه وأيادي إفريقية.